بات موضوع أمراض التدين أو انحرافات التدين، من المواضيع التي استسهل غرباء على المجال الإسلامي السطو عليها، وكما اقتحم “مثقفون” معاصرون مجردون من الأدوات المنهجية الإسلامية (علوم آلة ومنهجا) حقل العلوم الإسلامية والتراث الإسلامي، سطا نقاد متعالمون على القول الإصلاحي والنقد الاجتماعي الإسلامي في الوقت الذي كانوا يَصدرون عن مزاج حضاري مباين، ولم تكن لهم – بالأحرى – صِلة بالمعاناة الدعوية أو بالعقلية الإسلامية الأصيلة.
وقد كان من نتاج هذا السطو في موضوعنا حرف أسباب التدين المنحرف عن حقيقته، ونشر أدبيات فيها كلام يطلق على عواهنه من غير أثارة من علم أو سلطان من حقيقة، وقد أصابت تلك الأدبيات بعض الناس الصادقين مِن مَن لم يتشربوا حقائق التصور الإسلامي بالقلق وربما بما هو أخطر من ذلك.. وقد حاولت تلك الأدبيات الوصول إلى واحدة من نتيجتين سيئتين:
– الغمز من قناة القيم الدينية نفسها، واعتبارها – هي بطبيعتها – المسؤولة عن هذا الانحراف..
– تشويه المتدينين عموما، وتقديمهم باعتبارهم قوما منافقين، وبالتالي تدليك ضمير المصرين من الشاردين والإيحاء لهم بأن طريق الاستقامة طريق نفاقي وأنهم في حال أفضل ..!
وكل هذه المعالجات تجافي الحقيقة، أولا لأن التدين المغشوش وإن كان ظاهرة تطال المجتمعات المسلمة فهي تطالها كظاهرة – تشهد مدا وجزرا تبعا لجهود الإصلاح والتعليم – وليس كحالة عامة، ولأن هذه الظاهرة تعالج في نسقها الإسلامي الصحيح ثانيا، وهو ما سنحاول تلمس بعض جوانبه في هذا السطور.
ابتداء يحسن بنا التوقف قليلا عند المفهوم السليم للتدين.. فالتديّن هو انعكاس لفلسفة الإسلام في بناء شخصية المسلم، وهي ليست فلسفة قائمة على العنت ولا على الحرج (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا ..) (78 - الحج) (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157ـ الأعراف). (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28ـ النساء).
فلسفة التدين إذن قائمة على الاستجابة للفطرة، وعلى التعامل مع أشواق وضرورات ومطالب الإنسان، ولأن الإنسان مكون من ثنائيات ومركب من متقابلات، كان لا بد من العناية بهذه التركيبة؛ ومن ثم صدرت التكاليف الربانية والتصورات الدينية الصحيحة من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس..
ففضلا عن التعامل مع هذه التركيبة بما تتطلب، فإن التكاليف الشرعية والوصايا الأخلاقية الإسلامية سعت إلى إغناء هذا الكائن المشكل من نفخة الروح وقبضة الطين، من خلال أبعاد ثلاثة:
روحي ونفسي؛ يغتني بأخلاق الخير والجمال، ويكسب الصحة القلبية الدائمة بالخوف من الله عز وجل ومراقبته، وترتفع أخلاقه إلى مستوى العبادة انطلاقا من هذا الاعتبار فيدين بها لله عز وجل.
وعقلي؛ غذاؤه الصحيح سلامة التصور، عن المصير والنشأة والغاية، والعلم بالله وبصفاته وبمراضيه من خلال شريعته..
وجسمي؛ مادي؛ صلاحه الالتزام السلوكي الفردي، وعلى مستوى العلاقة مع الناس بالبعد عن العدوان؛ والظلم.
هذه مؤسّسات معلومة يحسن التذكير بها، مع التأكيد على أن التدين لا يعني الكمال ولا العصمة، ولكنه يعني أن يغلب على الإنسان الصلاح؛ ظاهرا وباطنا، ولا يتصور صلاح الباطن وفساد الظاهر، ولكن غالبا ما يحدث العكس.
مظاهر.. ومخاطر :
عند التأمل في أصناف ومظاهر التدين الفاسد سنجد أننا أمام تشوهات عديدة، لا يتسع المجال للاستفاضة فيها، بين تدينٍ شكليٍ وتدينٍ منافقٍ، وتدينٍ معتلٍّ (باطن الإثم) وتدينٍ مرَضي يحمل صاحبه نفسا حاقدة وأخلاقا شرسة، وبدل الدخول في خصائص تلك الأنماط الفردية يحسن إرجاعها لجذرها الكلي، بحيث نركز على البيئة التي أنتجت تلك النماذج، والثقافة الاجتماعية التي شجعتها، وتتداخل جذور هذا المشكل بين الاجتماعي والفكري/ العلمي:
فعلى المستوى الاجتماعي لم نحظَ بشكل كاف بتجديد ديني ينفض الغبار عن جوهر الدين ( أو على الأصح لم يتمكن هذا التجديد من الثقافة الاجتماعية)، بحيث أن المعايير الاجتماعية -ـ التي تسربت إلى الثقافة الدينية لظروف تاريخية أو لخصائص نفسية أو اجتماعية للمجتمعات العربية والمسلمة – هي المهيمنة، ومن ثم صبغت التدين بصبغتها، وطوعت المخيال الديني الاجتماعي لصالحها، حتى غدت ثقافة دينية مستقرة؛ وهذا أمر مشاهد في انصباغ كل مجتمع بأولويات وقيم دينية بعينها، ففي أغلب مجتمعاتنا تتعايش قيم المحافظة على الصلاة والصوم والحج، جنبا إلى جنب مع التطبيع النفسي والاجتماعي مع منكرات الكذب والخديعة والغش وغياب الإتقان وغربة الإحسان.. ثم ينطبع كل مجتمع على حدة بنسخة تدينية بها تراتبية قيمية ليست لدى المجتمع الآخر، فذاك مجتمع يعظم الجانب الاجتماعي الخُلقي ويستهين بمقاصد الأخوة والعدل والأمانة العامة، وذاك مجتمع يستهين بالمنكرات الخُلقية لطبيعته المنفتحة، فلشعوب الصحراء تدينهم ولشعوب البحر الأبيض المتوسط تدينهم، ولشعوب الجزيرة العربية تدينهم ولحواضر الإسلام تدينها..ورغم مراعاة الشرع للأعراف، فإن ذلك لا يعني اتخاذها أساسا ولا مرجعا، فهي مكملة ونتاج تفاعل القيم الدينية مع الواقع الاجتماعي، تفاعلا قد ينتج صيغا مختلفة للتدين، ولكنه لا يصادم مقاصد الدين ولا يستبدل موازينه، إنما هو دلالة على حيوية الإسلام وعبوره للمكان والزمان..
إن حقيقة التشوهات المذكورة سابقا هي غلبة السلطان الاجتماعي على السلطان الديني، ولذلك ينتهك الناس وصايا أخلاقية جليلة ويدوسون مقاصد شرعية عظيمة، في حين يعظمون جرم بعض الصغائر ويجعلونها في مرتبة الكبائر، وهي أهون عند الله مما انتهكوه وأعظم في ميزان الشرع مما استحلوه، وبذلك ينشأ تدين اجتماعي مشوه.
أما على المستوى الفكري فقد تسرب إلى وعي الناس نمط سهل للتدين، بدأ قديما في عصور الإنحطاط حين كان القصاص يجلسون فينسجون القصص الدينية الزائفة، ويضعون الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كرر ذِكرا طويلا غير مأثور في سنة صحيحة، فيه إغراب وسجع وتكلف أعطوه صك الجنان، وغفروا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقد أعاد وعاظ معاصرون وخصوصا تيار الدعاة الجدد ووعاظ “تجزئة الدين” من خلال أشرطتهم وبرامجهم التلفزيونية إنتاج هذا الخطاب، فبنوا مفهوما للتدين في أذهان الناس، يباين المفهوم الصحيح للتدين، فهو إما “تدين لذيذ” لا يعرف أصحابه للجهاد مكانة ولا للإصلاح منزلة ولا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبير مزية .
أو هو تدين شكلي ملفق من مجموعة من القضايا الخلافية والطقوس والرسوم، تخدر حس الناس وتشوه وعيهم، فتقصير الثوب وإطلاق اللحية و ... كليات في مقابل مقارعة الظلمة ورفض البغي وتخليص الناس من أكل الربا ، ومن ثم تسرب فهم شكلي للدين ومفهوم مرتعش للتدين.
يصف الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مصيبة هؤلاء العلمية والخُلقية : ” (إنهم) يسمعون أن شُعَب الإيمان بضع وسبعون شعبة ، بيد أنهم لا يعرفون فيها رأسا من ذنب ، ولا فريضة من نافلة ، والتطبيق الذى يعرفون هو وحده الذى يُقرون. إفراط . . وتفريط، والخلاف الفقهي لا يوهى بين المؤمنين أُخوّة ، ولا يُحدث وقيعة! وهؤلاء يجعلون من الحبة قبة، ومن الخلاف الفرعي أزمة. والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة، وهؤلاء تكمن وراء خلافاتهم علل تستحق الكشف!” (كتاب : مشكلات في طريق الحياة الإسلامية).
إن جامع هذين الانحرافين الكبيرين (الاجتماعي والفكري المفاهيمي) هو مناقضة مقاصد الإسلام والتدين الصحيح، وهي انحرافات توشك أن تقضي على الفاعلية الحضارية للأمة، وتشوه ثقافتها الدافعة للخير، وشروط عمارتها المبنية على الصلاح والسلام النفسي والمجتمعي.
- الكاتب:
الأستاذ / صبحي دادي - التصنيف:
المركز الإعلامي