في ظلِّ التشريع الإسلامي حظيت الأقلِّيَّة غير المسلمة في المجتمع المسلم بما لم تحظَ به أقلِّيَّة أخرى في أي قانون وفي أي بلد آخر من حقوق وامتيازات؛ وذلك أن العَلاقة بين المجتمع المسلم والأقلِّيَّة غير المسلمة حكمتها القاعدة الربَّانيَّة التي في قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 9].
فقد حدَّدت هذه الآية الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يجب أن يُعامِل به المسلمون غيرهم، وهو البرُّ والقسط لكل مَن لم يناصبهم العداء، وهي أُسُس لم تعرفها البشريَّة قبل الإسلام، وقد عاشت قرونًا بعده وهي تقاسي الويل من فقدانها، ولا تزال إلى اليوم تتطلَّع إلى تحقيقها في المجتمعات الحديثة فلا تكاد تصل إليها؛ بسبب الهوى والعصبيَّة والعنصريَّة.
حق حرية الاعتقاد للأقليات:
قد كفل التشريع الإسلامي للأقليات غير المسلمة حقوقًا وامتيازات عِدَّة، لعلَّ من أهمِّهَا كفالة حرية الاعتقاد، وذلك انطلاقًا من قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. وقد تجسَّد ذلك في رسالة الرسول إلى أهل الكتاب من أهل اليمن التي دعاهم فيها إلى الإسلام؛ حيث قال: "... وَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لا يُفْتَنُ عَنْهَا..."( انظر : سيرة ابن هشام وغيره).
ولم يكن التشريع الإسلامي لِيَدَعَ غير المسلمين يتمتَّعون بحرِّيَّة الاعتقاد ثم من ناحية أخرى لا يسنُّ ما يحافظ على حياتهم، باعتبارهم بَشَرًا لهم حقُّ الحياة والوجود، وفي ذلك يقول الرسول: " من قتل مُعاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ" (البخاري).
التحذير من ظلم غير المسلمين
وقد حذَّر النبي الكريم مِن ظُلمهم أو انتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصمًا للمعتدي عليهم، فقال: "مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ حَقًّا، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (أبوداود والبيهقي).
ومن روائع مواقفه كذلك في هذا الشأن، ما حدث مع الأنصار في خيبر؛ حيث قُتِل عبد الله بن سهل الأنصاري ، وقد تمَّ هذا القتل في أرض اليهود، وكان الاحتمال الأكبر والأعظم أن يكون القاتل من اليهود، ومع ذلك فليست هناك بيِّنة على هذا الظنِّ؛ لذلك لم يُعاقِب رسولُ الله اليهود بأي صورة من صور العقاب، بل عرض فقط أن يحلفوا على أنهم لم يفعلوا! فيروي سهل بن أبي حَثْمَةَ أنَّ نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرَّقوا فيها، ووجدوا أحدَهم قتيلاً، وقالوا للذين وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صاحبنا. قالوا: ما قتلنا ولا عَلِمْنَا قاتلاً. فانطلقوا إلى النَّبيِّ ، فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إلى خَيْبَرَ فوجدْنَا أحدَنا قتيلاً. فقال: "الْكُبْرَ الْكُبْرَ". ( ليتحدث أكبركم ) فقال لهم: "تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟" قالوا: ما لنا بيِّنةٌ. قال: "فَيَحْلِفُونَ". قالوا: لا نرضى بِأَيْمَانِ اليهود. فَكَرِهَ رسول الله أن يُبْطِلَ دمه، فَوَدَاهُ مائةً من إبل الصَّدقة. (البخاري)
وهنا قام الرسول بما لا يتخيَّله أحدٌ.. فقد تولَّى بنفسه دَفْعَ الدِّيَةِ من أموال المسلمين؛ لكي يُهَدِّئ من روع الأنصار، ودون أن يظلم اليهود؛ فلتتحمَّل الدولة الإسلاميَّة العِبْءَ في سبيل ألاَّ يُطَبَّقَ حَدٌّ فيه شُبْهَةٌ على يهودي!
حماية أموال غير المسلمين
وقد تكفَّل الشرع الإسلامي بحقِّ حماية أموال غير المسلمين؛ حيث حرَّم أخذها أو الاستيلاء عليها بغير وجه حقٍّ، وذلك كأنْ تُسْرَق أو تُغْصَب أو تُتْلَف، أو غير ذلك ممَّا يقع تحت باب الظلم، وقد جاء ذلك تطبيقًا عمليًّا في عهد النبي r إلى أهل نجران، حيث جاء فيه: "وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهِمْ جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ..." ( البيهقي).
وأروع من ذلك حقُّ الأقلية غير المسلمة في أن تَكْفُلَهَا الدولةُ الإسلاميَّة من خزانة الدولة - بيت المال - عند حال العجز أو الشيخوخة أو الفقر؛ وذلك انطلاقًا من قول الرسول: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (البخاري) على اعتبار أنهم من رعاياها كالمسلمين تمامًا، وهي مسئولة عنهم جميعًا أمام الله.
وفي ذلك روى أبو عبيد في (الأموال) عن سعيد بن المسيب أنه قال: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْيَهُودِ فَهِيَ تُجْرَى عَلَيْهِمْ"(نظر : الأموال لأبي عبيد ، قال الألباني : سنده صحيح).
ومما يُعَبِّرُ عن عظمة الإسلام وإنسانية الحضارة الإسلامية في ذلك الصدد، ذلك الموقف الذي تناقلته كتب السُّنَّة النبويَّة؛ وذلك حين مَرَّتْ على الرسول صلى الله عليه وسلم جنازة فقام لها، فقيل له: إنه يهودي. فقال: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا"( مسلم)
وهكذا كانت حقوق الأقليات غير المسلمة في الإسلام وفي الحضارة الإسلامية؛ فالقاعدة هي: احترام كل نفس إنسانيَّة طالما لم تَظلم أو تُعَادِ.
- الكاتب:
د. راغب السرجاني - التصنيف:
المركز الإعلامي