حالة البرود الشديدة التي تعاملت بها الدول الأوربية وواشنطن مع الانقلاب العسكري المجرم في تركيا مثيرة للدهشة، يبدو الأمر في بروده ولا مبالاته وكأنه كانت هناك مناوشات سياسية بين بعض الأحزاب وأوربا تطالبهم باحترام القانون وتهدئة الخواطر واحترام نتائج الانتخابات، وقد كان الأمر واضحا في ليلة الانقلاب عندما صمت الجميع ورفضوا إدانة الانقلاب وبيانه المعلن بالسيطرة على البلاد، وكأنهم ينتظرون "حدثا سعيدا" عندما كان الانقلاب ينقل على الهواء مباشرة بالصوت والصورة، وبعد خمس ساعات كاملة بدا فيها أن الانقلاب يترنح فعلا وأن القيادة الشرعية لتركيا تستعيد الإمساك بزمام الأمور، بعدها خرج التصريح الخجول من الرئيس الأمريكي باراك أوباما يطالب باحترام الحكومة الشرعية المنتخبة، وحتى في هذا البيان لم يظهر منه إدانة حاسمة وواضحة للانقلاب العسكري، ومن بعد أوباما ظهر بعض القادة الأوربيين ليتحدثوا عن تأييدهم "المشكور" للحكومة الشرعية المنتخبة في تركيا.
الوضع الآن ازداد وضوحا وفضائحية، ولا تخطئ عينك وأذنك رؤية وسماع نغمة حزينة في تصريحات المسئولين الغربيين عن الوضع في تركيا، ويستحيل أن تعثر على أي تصريح تشم منه رائحة ابتهاج بانتصار الديمقراطية وفشل الانقلاب، بل الآن تجد العواصم الأوربية بكاملها مشغولة للغاية بحماية مصير الانقلابيين، جميع التصريحات الصادرة لا تهتم بأي شيء آخر في تركيا سوى مصير القيادات الانقلابية وطلب التعامل معهم برأفة، والمدهش أن أي دولة أوربية حتى كتابة هذه السطور لم تصدر بيانا "نمطيا" وتقليديا وبروتوكوليا، تعزي فيه الشعب التركي والقيادة التركية في المئات من أبناء الشعب التركي الذين سقطوا شهداء تحت جنازير الدبابات الانقلابية أو برصاص العسكر، بينما جميعهم مشغولون بنداءات لحماية القتلة والانقلابيين ، هذا مثير للغاية، ويكشف عن مرارة شديدة من فشل الانقلاب ، وأنه ربما كانت أمور قد تم ترتيبها في المنطقة انهارت جميعا وسببت صدمة لم يفيقوا منها.
دلالات الموقف الغربي من انقلاب تركيا مهمة ومفصلية لوعي النخب العربية والإسلامية والشعوب الإسلامية بشكل عام تجاه إيمان المجتمع الدولي الحقيقي بالديمقراطية للجميع، المجتمع الدولي يؤمن بالديمقراطية على الطريقة "الإسرائيلية"، ديمقراطية لشعب "إسرائيل" وحده، أما الآخرون فالديمقراطية غير مطروحة وغير مستحبة وغير مرحب بها، أحداث تركيا وما قبلها وما بعدها، تثبت أن دوائر صنع القرار في الغرب ليست في وارد القبول بنظم ديمقراطية شرعية ومستقرة في العالم العربي والإسلامي، وليست في وارد القبول بدول عربية وإسلامية قوية وناجحة وناضجة سياسيا واقتصاديا وعلميا وعسكريا، فأوربا التي قبلت بجزيرة مالطا وجزيرة قبرص في الاتحاد الأوربي، رغم أنهما لا يمثلان اقتصاد مدينة واحدة في محافظة من محافظات تركيا ولا حتى مساحتها، ترفض بإصرار حتى الآن ومنذ عشرين عاما، قبول تركيا، إحدى الدول العشرين الأعظم في العالم، ضمن الاتحاد الأوربي، وتنتحل الأعذار والأسباب لتبرير رفضها المهين ذلك.
ومن يتابع الإعلام الأوربي وموقفه من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يذهله حجم الكراهية التي يحملونها لهذا الزعيم الكبير، إنهم يكرهونه أكثر من السفاح القاتل بشار الأسد نفسه، أو أي ديكتاتور مجرم في العالم الثالث، رغم أنه الزعيم الشعبي الناجح سياسيا واقتصاديا، وصاحب الحضور الطاغي ومع ذلك لم ينجح سوى بفارق اثنين في المائة في انتخابات الرئاسة، وحزبه الذي حقق كل هذه النهضة التركية الفذة بالكاد تجاوز الخمسين في المائة من مقاعد البرلمان، واضطر بعد سنوات طويلة من النجاح إلى القبول بحكومة ائتلافية مع أحزاب المعارضة، ثم اضطر إلى الاحتكام لانتخابات أخرى مبكرة لكي يمكنه تشكيل حكومة، ويحاول أردوغان على مدار عامين أن يجري تغييرا دستوريا لتحويل تركيا إلى النظام الرئاسي بدلا من البرلمان ولكنه عاجز عن ذلك لأن أدوات الديمقراطية عصية عليه وعلى غيره، وهو الحريص على احترامها والاجتهاد من خلالها وليس قفزا عليها أو تجاهلا لها.
باختصار ، الحقيقة تتبدى الآن أكثر من أي وقت مضى، أوربا وواشنطن ليستا في وارد القبول أو الرضا أو المساعدة على وجود ديمقراطية حقيقية في المنطقة، وستظل تحتفل بأي انقلابات إن لم تساعد على صناعتها، أو تمزيق المجتمع نفسه إن عجزت عن تمكين "العسكر".
ما حدث في تركيا ربما يفسر لنا "الملعوب" الذي يتم على مدار عدة سنوات في سوريا مع المجرم القاتل بشار الأسد وفي ليبيا مع الجنرال خليفة حفتر، رغم أن بشارا ليس في هيبة ومنعة صدام حسين، كما أن حفتر ليس في قدرة وسيطرة القذافي، وعلى شعوب المنطقة أن تستوعب هذا الدرس جيدا.
لقد عشنا في وهم وأكذوبة إيمان الغرب بالديمقراطية في بلادنا، قد يكون هذا صحيحا على مستوى منظمات المجتمع المدني والنخبة النبيلة وليس على مستوى صناعة القرار ودوائره، الديمقراطية هناك ـ كما في إسرائيل ـ منتج محلي ليس للتصدير ومنظومة للإنسان الأوربي "المميز"، أما العالم الثالث فلا يناسبه إلا جنرالات وقتلة وطغاة بلا قلب، يسهل ترويضهم وتوجيههم وربط مصيرهم برضاء عواصم الغرب عنهم فيرتهنون لقرارها ومصالحها وليس مصالح شعوبهم، ويتم اقتسام النفوذ في بلادهم بين هذه العاصمة الغربية وتلك في نظام محاصصة انتهازي واستعماري يقوم على شراء الذمم والرشى والاحتفاظ بها كمناطق عاجزة وضعيفة تبقى سوقا لتصريف المنتجات الغربية وليس منافستها، ولا تملك قرارها المستقل في مصير بلادها وفي مصير المنطقة والعالم أيضا، وتصبح رقما مهما في أي معادلة تخصها.
تركيا الأردوغانية كسرت تلك الحالة، وتجاوزت تلك الخطوط المحظور تجاوزها غربيا، وأردوغان وحزبه تسلما السلطة بعد خمسين عاما من حكم العسكر وانقلاباته ومعسول كلامه الذي حول تركيا لخرابة وجعلها نسخة من العالم الثالث بفقره وفساده وديونه وانقسامه واهتراء بنيته الأساسية، فنهضوا بالبلاد، وحقق أردوغان هذه القفزة الاقتصادية وعمق الديمقراطية وحول بلاده إلى مارد اقتصادي وسياسي وثقافي وعسكري، وجعل بلاده بمواطنيها ومدنها وخدماتها وشوارعها وميادينها مفخرة لا تقل أبدا في ثرائها وجودة الحياة فيها عن أي عاصمة أوربية كبرى، لذلك يكرهونه، ويخشون أن يكون "نموذجا" ملهما للآخرين، ويحاولون تشويهه أو كسره أو إعاقته أو حتى إطاحته من خلال الانقلاب العسكري الفاشل.