تعاني حياتنا الثقافية والفكرية بشكل كبير من غياب التأثير الفعال في الواقع ، وكأن الثقافة والمعرفة تسير في واد والواقع في واد آخر ، وإذا كانت السلطة السياسية تتحمل عبئا كبيرا من هذه المسؤولية ، فإن هناك عبئا آخر على المثقفين أنفسهم الذين لم يعملوا على صناعة المعرفة العملية القادرة على الاقتراب المنتج من الواقع وهذه الحالة تصيب مراكز الأبحاث أيضا بدرجة كبيرة ، والتي – باستثناء عدد قليل منها – لا نجد أن الاهتمام البحثي لها يسير في إطار خدمة المشروع السياسي الثقافي للأمة كما هو الحال في الدول الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية فيما يعرف ببنوك التفكير ، والتي لها دور كبير في صنع السياسة الأمريكية من خلال الأبحاث أو الكفاءات البحثية التي تصقل قدراتها وتوظف طاقاتها . وبالتالي ونحن نمر اليوم في مرحلة تحولات تاريخية ، تدعو الحاجة الحقيقية لبناء استراتيجيات ثقافية لمواجهة الأزمنة القادمة.
نحن والتراث الإصلاحي:
ثمة اتجاه كبير في الفكر الإسلامي اليوم في الرجوع إلى التراث الإصلاحي في عصر النهضة مثل تراث جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا والكواكبي وابن باديس وغيرهم من المفكرين الأوائل ، فيما يبدو بفعل انهيار الاتحاد السوفيتي و أفول عصر الأيدلوجيات الكبرى ، وبروز الحاجة إلى بناء معرفي وفكري ثر يغني الخطاب الإسلامي الحالي بعد أن استنزفته الصراعات السياسية مع الأنظمة الحاكمة وسرقت جهوده على حساب جوانب الإبداع الفكري والمعرفي الذي تميّز به تراث الأوائل ، مثل : الأفغاني وعبده ورضا وخير الدين التونسي وغيرهم .
وقد شهدنا في السنوات الأخيرة عدة مؤتمرات وندوات عقدت في عواصم عربية حول فكر هؤلاء الأعلام ، وكان آخر هذه الندوات قبل أيام قليلة في عمّان بعنوان " مشاريع الإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث الكواكبي نموذجا "، وقد حفلت الندوة بالأوراق البحثية والتي قدّمها نخبة من الباحثين وأهل الفكر من عدة دول عربية، بيد أن الندوة لم تجب على السؤال الرئيس الذي عقدت من أجله وهو : ماذا قدّم لنا الكواكبي – في مشروعه الإصلاحي – لنتمكن من البناء عليه ؟ ..
ولعل هذا السؤال الكبير الذي لم يجد حتى أجوبة حائرة ! ، يعيدنا إلى ندوات فكرية سابقة عقدت حول مشروع الأفغاني ورشيد رضا ودور مدرسة المنار في الإصلاح ، دون أن نخرج برؤية حضارية معرفية حول : ماذا نستفيد من تراثهم الإصلاحي في عملية الانبعاث الحضاري المأمول ؟..
أقول : - وللأسف الشديد – إننا ما زلنا نمارس العدمية في تعاملنا مع تراث عصر النهضة ، ونعيد ونجتر ما كتب عنهم من جدليات وخلافات وربما محاكمات ، دون أن نقدر على استثمار هذا التراث والمراكمة على العناصر الحية فيه، وترشيد مساهمته في بناء فكر إسلامي يخدم قضايا نهضة الأمة وتحريرها ، وإذا كان البعض يتحدث عن تجاوز مرحلة المراهقة الفكرية إلى الرشد فإنني أتساءل فيما إذا كنا أصلا قد وصلنا إلى مرحلة المراهقة !.وعودة إلى موضوع ندوة الكواكبي الأخيرة فماذا يفيد في ندوة تتحدث عن مشروع إصلاحي حديث - يمكننا الاتصال به واكتشافه وغربلته ، وبعثه من جديد بعد قطيعة معرفية امتدت عقود- أن نستغرق جزءا كبيرا من نقاشنا في الاختلاف حول لحظة ولادته ، أو الجدال والنزاع في جذور العلمانية في فكره – في وقت لم يكن هناك علمانية أصلا بمفهومها الحالي – أو التفاصح حول اشتراكيته ومعانيها !
وأذكر أن جدالات مشابهة لهذه الجدالات شهدتها ندوات سابقة عن محمد رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني ، وانتهت الندوات إلى نفس النتائج العدمية ، إن الخدمة الحقيقية لمشاريع الكواكبي وغيره من أعلام النهضة السابقين هي إقامة ندوات وأبحاث حقيقية وذات وزن معرفي وتضيف إضافات نوعية حتى وإن كانت نقدية على ما كتب سابقا ، وتعيد الفعالية لتراثهم في حياتنا الفكرية والثقافية الحالية ، كما فعلت الأمم الأخرى مع تراثها الفكري ، فلم يمض عصر النهضة الأوروبية وقته ويبذل جهوده في محاكمة العصر الإغريقي والروماني والعصور السابقة ، وإنما أفاد من التراث الذي يمكن البناء عليه ويساعد على التقدم والسير للأمام ندوات في هذا الاتجاه هي القادرة على تحقيق الهدف المنشود حتى وإن لم تصاحبها بهرجات إعلامية ودعائية ومراسم بروتوكولية تنتهي بأوراق بحثية تسيء لفكر الرجل بعد مائة عام على وفاته ! ؛ لأنّ صاحب الورقة لم يجد الوقت أو النفس العلمي العميق الذي يساعده على دراسة فلسفة المشروع الإصلاحي والشروط التاريخية والإكراهات الواقعية التي عاشها .
التحليلات والأبحاث السياسية:
إلاّ أنّه وللأمانة ، فإنّ ظاهرة "العدمية" ليست مقتصرة على تعاملنا مع التراث الإصلاحي ، فهي مرتبطة بتعاملنا مع قضايانا السياسية وتحليلنا وتفاعلنا مع الأحداث ، بل إن غياب الاستراتيجيات الثقافية والفكرية جعل تفاعلنا مع الأحداث تفاعلا آنيا ولحظيا بلا نتائج مثمرة وحقيقية .
وربما نجد في الأحداث الحالية في المنطقة مثالا واضحا على ما نريد الوصول إليه : فغالبية الصحف والمحللين والمثقفين يتناولون اليوم الأحداث في المنطقة بالتحليل والتنبؤ ومتابعة وترجمة وتفسير التقارير الغربية والأمريكية التي تتحدث عن مستقبل المنطقة وتداعيات الأحداث ، وربما جزء كبير من هذه التقارير يتم تسريبه عن قصد ولأهداف محددة ، ولا نجد دراسات حقيقية وواقعية من قبل المفكرين لمواجهة المرحلة القادمة ، أو يكتفون بحلول عامة ومثالية دون تحديد خطوات عملية ضمن تصورات استراتيجية تتبعها القوى السياسية وترشد الجماهير، بدلا من أن نكون فريسة سهلة للأحداث وردات الفعل الآنية تتحكم بنا وتسوقنا من كارثة إلى أخرى ، وقد تفاجأ وفد صحفي أردني عاد قبل ايام من واشنطن برؤية المسؤولين هناك أن الشعوب العربية غير قادرة على التأثير في الأحداث ، بما يؤشر على التصور الأمريكي لما يشاع عن غضب الشارع العربي من السياسة الأمريكية وعدم الاكتراث به من قبلهم .
أخشى ونحن نتحدّث اليوم عن إعادة رسم خارطة المنطقة للمرحلة القادمة ، والسيناريو الأسوأ أن يتم ذلك كله ، ثم نخرج بمسيرات منددين ومتذمرين وغاضبين – إن استطعنا فعل ذلك – ثم نعود إلى منازلنا لنتابع نشرات الأخبار والتقارير المسربة من واشنطن وتل أبيب ، والتي تتحدث عن مستقبلنا ، وتبقى حياتنا الثقافية والفكرية مقدّر لها أن تسير في واد والواقع السياسي والاجتماعي في واد آخر ! .
- الكاتب:
الأستاذ/ محمد سليمان - التصنيف:
ثقافة و فكر