الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

طور الشباب

طور الشباب

طور الشباب

يتدرج الإنسان في مراحل الخلق طورا بعد طور حتى يكتمل أصل خِلْقَتِه، ثم ينشئه الله خلقا آخر بانتقاله إلى طور الحياة بنفخ الروح فيه، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون]، وأطوار الْخِلْقَةِ مختلفة في خصائصها ومقتضياتها، فطور نفخ الروح يقتضي: إرسال الملك، وكتابة الرزق، والأجل، والعمل، ووصف المسار العملي الذي سيختاره الإنسان حتى يختم له به، فيستحق الوصف الذي يناسبه من شقاوة أو سعادة، ثم يخرج الإنسان إلى الدنيا طفلا، ثم يترقى في الخلق حتى يصير أهلا للأمر والنهي من أوليائه؛ ليتهيأ للاستجابة لأمر خالقه، يشير إلى هذا الطَّوْر قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر". رواه أبو داود وغيره.

هكذا يقترب الإنسان شيئا فشيئا من الحُلُم الذي ببلوغه يتوجه إليه الخطاب الشرعي، لتمام أهليته لذلك، قال تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور/59].
متى تبدأ مرحلة الشباب؟ ومتى تنتهي؟ ومتى يبلغ الإنسان أشده؟ وما هي أهميتها؟
تبدأ مرحلة الشباب من البلوغ، فيتوجه إلى الشاب الأمر الشرعي، ويوضع عليه القلم الذي كان مرفوعا عنه قبل ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل". (رواه أبو داود والترمذي)، فاعتبر البلوغ بداية مرحلة الشباب؛ لأنها أنسب لما يقتضيه البلوغ من مؤاخذة، وتمتد هذه المرحلة إلى ما بعد الأربعين، وفي أثنائها يبلغ الإنسان أشده، أي يكتمل نُمُوُّ قُوَاهُ البدنية والعقلية، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف/15]، وليس لبلوغ الإنسان أشُدَّهُ سِنٌّ محدد، وإنما يتوقع حصول ذلك فيما بين الثلاثين إلى الأربعين، والأربعون هي غاية كماله، (كما قال ابن عاشور في تفسيره)، وليست سِنٌّ الأربعين حَدّاً لنهاية هذه المرحلة، بل هي غاية كمالها، ثم يُمَتَّعُ الإنسان بها غالبا بعد ذلك ما شاء الله، وبلوغ الأشد مؤهل زائد على بلوغ الْحُلُم الذي يحصل به التكليف، فلا عذر عند ذلك لمن تأخر عن تمام شكر المنعم؛ ليتناسب تمام الخلقة في جانبيها الحسي والمعنوي، مع تمام الشكر، وقد نبهت الآية إلى أن الشكر المطلوب نوعان: قولي كالدعاء، وفعلي وهو العمل الصالح؛ ولذلك ناسب أن يدعو البالغ أَشُدَّه بهذا الدعاء الجامع لِنَوْعَيِ الشكر، ولكون بلوغ الْأَشُدِّ هو أكمل أطوار الخلق اختاره الله سبحانه وتعالى لاصطفاء من شاء من عباده بإيتاء الحُكْم والعلم، قال تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف/22]، وقال تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [القصص/14].

أهمية مرحلة الشباب ترتقي إلى أن يُسأل الإنسان عنها سؤالا خاصا يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قَدَمُ ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم". رواه الترمذي وغيره.
لماذا أفردت مرحلة الشباب بسؤال خاص؟
الإجابة على هذا السؤال تحتمل احتمالات متعددة ترجع كلها إلى صفات الإنسان في هذه المرحلة، وهذه الصفات منها: الحيوية والاندفاع، والجهل وقلة الخبرة في شؤون الحياة، كما تتميز هذه الفترة غالبا بنعمتي الصحة والفراغ، بالإضافة إلى كونها هي مرحلة اكتمال قدرات الإنسان البدنية والعقلية، وهو ما عبر عنه القرآن ببلوغ الأشد، كما سبق في الآية.
الاحتمال الأول: لتخصيص مرحلة الشباب بسؤال خاص: هو كونها مرحلة النشاط والاندفاع، المصاحب للجهل غالبا، فقد ورد في الحكمة: "الشباب مطيَّة الجهل، ويروى مَظِنَّةُ الجهل"، بل قد بالغ أحد الشعراء فعَدَّهُ شُعْبة من الجنون، قال الشاعر العتبي:
قالت عهدتك مجنونًا، فقلت لها ... إن الشباب جنون بُرْؤُهُ الْكِبَرُ.
أما أنها مرحلة النشاط والاندفاع؛ فلأن الشباب أسرع إلى تغيير القناعات، وأسبق إلى قبول الدعوات، قال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف/13]، وقال تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [يونس/83]، وهذه الخاصِّيَّةُ من خصوصيات مرحلة الشباب ذات وجهين: أحدهما محمود، وهو الذي توجه فيه هذه الخاصِّيَّةُ لمقتضى الفطرة الأولى الجانِحَةِ إلى ما يناسب العقل السليم، الذي ينفر من الانحراف الظاهر على الحياة الجاهلية في المظاهر والأفكار، فينكر ذلك بقلبه، فإذا لاقى ما يستجيب لهذا الشعور، وينير له طريقا مستقيما تَلَقَّفَهُ بشَغَفٍ، وتمسك به، أما الوجه السلبي لخاصِّيَّة الحيوية والاندفاع لدى الشباب، فهو الذي تسيطر عليه الغرائز، وتوجهه الشهوات، دون أن يهذبها عقل سليم، أو يقومها علم نافع، فيَهْوِي بها الشاب في مستنقع سحيق، يستحق الناجي منه رغم قوة جاذبية تياره، وشدة اضطراب أمواجه: أن يكون من الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة ربه ..." (متفق عليه).
الاحتمال الثاني: أن اختصاص هذه المرحلة بالسؤال عنها يرجع إلى كونها تختص غالبا بعاملين أساسيين للإكثار من العمل الصالح المثمر، قَلَّ أن يجتمعا فيما بعدها من مراحل
العمر، وهما: الصحة والفراغ، اللذان قال عنهما النبي صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" (رواه البخاري).
الاحتمال الثالث: أن فترة الشباب تتميز بطور اكتمال نُمُوِّ قدرات الإنسان البدنية والعقلية، وهو الطور الذي عبر عنه القرآن ببلوغ الإنسان أشده كما سبق في الآية.
الاحتمال الرابع: أن تخصيص هذه المرحلة بالسؤال يرجع إلى كونها تجمع الخصائص السابقة كلها، فهي مرحلة الحيوية والنشاط، والصحة والفراغ، ومرحلة اكتمال القدرات الحسية والمعنوية، ولو في بعض فتراتها؛ إذ الغالب أن الإنسان في أول شبابه ذو نشاط وحيوية، إلا أنه قليل الفهم والخبرة، ثم يكتسب منهما خلال فترة شبابه شيئا فشيئا حتى يكتمل نضجه ببلوغ الأشد.

كيف يحسن الشباب استغلال هذه المرحلة:
استغلال هذه المرحلة يتطلب من الشاب أن يستعين بالوسائل الشرعية التالية:
أولا: أن يجعل كل اختياراته مبنية على الدليل والبرهان، ويبتعد فيها عن التقليد الأعمى والعادات، خاصة إذا تعلق الأمر باختيار منهج للحياة، فقد أرشدنا القرآن الكريم إلى هذا المنهج القويم، قال تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء/69-82]، فلنتأمل كيف حاجَّ إبراهيم قومه مبينا المنهج الصحيح الذي يجب أن يُبْنَي عليه الاختيار.

ثانيا: أن يستعين على ضبط الغرائز بالوسائل الشرعية، ومنها ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ". (متفق عليه).
ثالثا: أن يستعين بالصحبة الصالحة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة/119]، وقال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف/67]، فليتحرَّ الشاب أن يصحب الصِّدِّيقِينَ، فإن لم يجد فالصادقين.
رابعا: أن يتعلم من أهل العلم ويلتمس المشورة من أهل الخبرة، قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء/7]، فالأمر بسؤال أهل العلم يتضمن الأمر بمشاورة أهل الخبرة، فالخبرة علم تجريبي، وقد ورد في وصية لقمان لابنه قوله: "يا بُنَيَّ شاور من جَرَّبَ الأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء، وأنت تأخذه بالمجَّان"، وورد في الحكمة أيضا: "أربعة تحتاج إلى أربعة: الحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقرابة إلى المودة، والعقل إلى التجربة"، وقال الشاعر جرير:
وابن اللَّبُون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صَوْلَةَ البُزْلِ الْقَناعِيـــــــــــــــس.
وقال آخر:
لعمركُ لَلشُّبَّانُ أسرع غــــــــــارةً ... ولَلشِّيبُ إنْ دارتْ رَحَى الحربِ أصبرُ.
فلا يستغني الشاب عن مشاورة أهل الخبرة في شؤون الحياة.
خامسا: أن يغتنم الفرصة ولا يكون من المغبونين في الصحة والفراغ، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ". (رواه الحاكم وغيره).
وقال الشاعر:
بَادِر الْفُرْصَةَ وَاحْذَرْ فَوْتَهَا ... فَبُلُوغُ الْعِـــزِّ في نَيْلِ الْفُـــــــــــــــرَصْ.
وقال آخر:
إِذا لم تحاولْ في شبابكَ غايةً ... فيا ليت شعري أيَّ وقتٍ تحاولُ.
سادسا: عدم الاتِّكال على أمجاد الآباء والأجداد وإنجازاتهم، فقيمة كل شخص ما يحسنه، لا ما يحسنه آباؤه وأجداده.
وأختم بالقول: إن من أهم ما يتعلمه الشاب هو خصائص المرحلة التي يمر بها.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

قضايا شبابية

أفشوا السلام بينكم

إفشاء السلام بين المسلمين سبب من أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، والمقصود بإفشاء السلام نشره والإكثار منه،...المزيد