مع الحلقة الثالثة من الثورة الثقافيّة التي رسّخها الإسلام في نفوس عرب الجاهليّة، تلك الأقوام المتفرّقة الغارقة في غياهب الضلالة، والعائمة في مستنقعات اللهو والمعاصي والعصبيّات سنةً تلو سنةٍ وقرناً تلو قرنٍ، لا يساهمون في بناءٍ حضارةٍ ولا يفيدون أقواماً أخرى في الأخلاق، وكأنّهم عالةٌ على كوكب الأرض.
وقد استطاع الإسلام أن يحقق هذا التغيير الثقافي، والتي يعرفها المركز الوطني للموارد النصيّة واللفظية الفرنسي في موقعه CNRS: " هي مجموع التغيّرات التي تطرأ على مجموعة ثقافية تهم كيفية رد الفعل، والملاحظة، والحكم، والعمل،والتفكير والكلام .. ".
وهذا ما عاشه العرب بكل ما للكلمة من معنى، وقد رأينا ضرباً من ذلك في أجزاء المقالة السابقة ونضيف أيضاً الآتي :
من قبائل متفرّقة متناحرة إلى دولةٍ موحَّدةٍ :
فالحال عند العرب قديما مجموعةٌ من القبائل المتفرّقة، كلُّ قبيلةٍ على رأسها سيّدٌ، تنشبُ الحروب بينها على أتفه الأسباب وتدوم عقوداً وتهرق فيها الدماء باطلاً ! أما في جانب السياسة فلم يكونوا يحسنونها مطلقاً، لا في باب الاقتصاد ولا تسيير الشؤون ولا في الإدرات العامّة، بل حتى في المنازعات كانوا يحكمون بالعرف؛ هذا الأخير الذي كان يحمل في طيّاته ظلماً كبيراً للنّاس، أشبه بقانون الغاب حيث أن القويّ يأكل فيه الضعيف.
فجاء الإسلام بشريعته الغنّاء التي تؤسس للعدل والتي تشمل كلّ مناحي الحياة، فتحوّلت هذه القبائل إلى دولةٍ متراصّة الصفوف، لا فرق فيها بين قويٍّ وضعيف، ولا صاحب نسب وجاهٍ ومقطوع النّسب ! حتى أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم طلبوا منه أن يشفع لامرأةٍ سرقت فقال لمن أرسلوه له : ( أتكلِّمُني في حدٍّ من حدودِ اللهِ ؟ .. أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلَكم : أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها. ) رواه البخاري .
فقطع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كل محاولةٍ ترمي إلى إبطال الحدود تحت بند الشفاعة ! فكان الكلّ سواسيةً أمام الشريعة، وشرع الزّكاة كضريبةٍ تأخذها الدولة من الغنيّ لتعطي الفقير، وكان بيت مال المسلمين أكبر معينٍ بعد الله تعالى للفقير المعسر، ونظّم الأمور وخط حدود العلاقات بين الناس، وأرسى قواعد السياسة الداخليّة والخارجيّة ... وأصبح المجتمع يفكر في كيفية تحقيق العدالة الاجتماعيّة، ودولة الرخاء، والتطور الاقتصادي والفكري .
القطيعة مع ازدراء الفقراء :
وكانت العرب تزدري من لا مال له، حتى أنهم كانوا يحقرونه ولا يجالسونه أبداً، وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أنه قال : ( مرّ الملأ من قريش على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب وعمّار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد رضيت هؤلاء من قومك أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتّبعك..) أخرجه أحمد والطبراني .
فنزلت الآية الكريمة الرائعة : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون *ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } ( الأنعام : 51-52 ).
فأتى الأمر الربّاني بعدم الامتثال لهذه العادة الجاهليّة الخبيثة، وأقرّ مبدأ الأخوّة الإيمانية لا فرق بين غنيّ وفقير، وبين خليفةٍ وعاطلٍ وقال سبحانه : { إنما المؤمنون إخوة } ( الحجرات : 10)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد .. لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى ) أخرجه أحمد .
فكانت المساواة بين المؤمنين من أكبر القيم التي رسّخها الإسلام في نفوس العرب، وهي لعمري من أكبر المبادئ التي دعا إليها الإسلام، وذمّ الكبر والعجب، وقال صلى الله عليه وسلم : (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) رواه مسلم.
وكانت من العادات الجاهليّة أن الناس تفتخر بآباءها وجاهها وعشيرتها، وقد أبطل الإسلام ذلك : (إن الله قد أذهب عنكم عبية - الكبر والترفع والتفاخر - الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان – حيوان كالخنفساء- التي تدفع بأنفها النتن . ) كنز العمال .
وهذا خطابٌ لكلّ من لا زال يتفاخر بانتسابه لأقوام كافرةٍ كالفراعنة والفينيقيين واليونان والأمازيغ قبل الإسلام وغيرهم .
الدعوة إلى التداوي بالطب لا بالخرافات :
وقد كان من أساطير العرب التداوي بأساليب خرافية لا تنفع بل تضرّ، ومنه ما قاله الإمام الألوسي : " ومن تخيلات العرب أنهم كانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرضت الأرواح الخبيثة له نجسوه بتعليق الأقذار عليه كخرقة الحيض، وعظام الموتى.. " -1-
وقال في موضع آخر : " ومن مذاهب العرب تعليق الحلى والجلاجل على اللديغ، يرون أنه يفيق بذلك، ويقال إنه إنما يعلق عليه لأنهم يرون إن نام يسري السم فيه فيهلك، فشغلوه بالحليّ والجلاجل وأصواتها عن النوم .. " -2-
ومنه تعليق كعب الأرنب لضمان الصحّة، وتعليق عظام الميت حذراً من الموت ، وأن دم رئيس العشيرة يشفي من عضّة الكلب وغيرها .. وكل ذلك كان من الجهل والكهانة والسحر الذي أبطله الإسلام، ورأيناه فيما سبق من أجزاء المقالة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي والإقبال على علم الطب والصيدلة فهي ما تنفع الناس بإذن الله التي جعل فيها الشفاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم : (تداووا عباد الله ، فإن الله لم يضع داءً ، إلا وضع له دواء غير داء واحد هو الهرم) رواه أحمد وأبو داود.
وقال في صحيح مسلم : ( لكلٍّ داءٍ دواء ، فإذا أُصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله )، فليس الشفاء في تلك الأساليب الجاهليّة بل ذلك مما يزيد الطين بلّة.
إننا نبصر الحال الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، حتى إن المرء ليضحك من مثل هذه الأساليب والجهالات، ولذلك كان الإسلام أكبر نعمةٍ أنعمها الله عليهم وعلى غيرهم، مما يدفع فرية من يقول بأن الإسلام هو للحضارة المتخلّفة وليس هو لزماننا هذا! وهي فريةٌ لا تصمد أمام ما ترى فلعلّك تعتبر .
هوامش المقال
1- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، 2/324.
2- المصدر السابق : 2/304.