كان العلامة ابن خلدون (732-808 هـ) صادق البيان, دقيق القول حين وصف التاريخ بأنه "فن عزيز المذهب, جم الفوائد, شريف الغاية: إذ هو يوقفنا علي أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم, والأنبياء في سيرهم, والملوك في دولهم, وسياستهم, حتي تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا".
وابن خلدون في توصيفه هذا إنما يساير المعروض القرآني في اعتبار التاريخ -لا مادة معرفية علمية فحسب- ولكن عطاء لتحقيق أهداف سلوكية وأخلاقية نبيلة بالاقتداء, أو الاجتناب: الاقتداء بالنماذج الطيبة الصالحة النافعة, واجتناب الأخلاقيات والسلوكيات التي قادت أصحابها إلي العذاب والهلاك, فقد ضم القرآن بين دفتيه سير الأنبياء, والرسل والحكماء والطغاة كفرعون وقارون… عرضها شرائح كلاً في موقعها التي تعكس منه الدرس والعظة, وكان هذا العرض – بإعجازه الفائق- وسيلة راقية فعالة للإرشاد إلي الحق والخير, وغرس العقيدة وتجذيرها, وتربية الضمير الحي, والسلوك السوي. وصدق الشاعر إذ قال:
ومن وَعَي التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلي عمره
والأعمار هنا ليست أعمار سنين, ولكنها إعمار شامل يتسع لإعمار النفس بالعقيدة والتقوي, وإعمار العقل بالعمل النافع, والفكر الوضيء, وإعمار الروح بما ينقيها ويزكيها. فالإنسان لا يستطيع أن يزيد حياته سنينًا , ولكنه يستطيع – لو أراد وصدق العزم- أن يزيد سنينه حياة.
في آفاق الإمام أحمد:
و وجدتني مشدودًا إلي آفاق الإمام العظيم أحمد بن حنبل (164- 241هـ), وقد خالف الرأي الذي تبنته الدولة (ابتداء بالمأمون, وانتهاءً بالواثق, مرورًا بالمعتصم).. وهو "خَلٍق القرآن". وأراد الحكام أن يحملوا أحمد بن حنبل علي رأيهم فرفض, فسُجن 28 شهرًا, وعُذب تعذيبًا رهيبًا.
وقد تناوب علي ضربه بالسياط مائة وخمسون جلادًا, ولم يتخل عن رأيه في أن "القرآن كلام الله غير مخلوق" وقد أدخلوا عليه عمه (إسحاق بن حنبل) ليقنعه باعتناق رأي الحكام ولو تقيَّة- أي تظاهرًا – فرفض وقال: "يا عم إذا أجاب العالم تقية, والجاهل يجهل, فمتي يتبين الحق"? ثم قال: كيف يصنعون بحديث خباب بن الأرت "إن كان مَنٍ قبلكم يُنشر أحدهم بالمنشار, ثم لا يصده ذلك عن دينه"؟
ويؤيد الإمام محمد أبو زهرة رأي ابن حنبل في رفضه الأخذ بالتقية مادام كان ذلك في دار الإسلام.. فهو لا يجوز إلا حيث يكون للإسلام قوة وسلطان, كبلاد يضطهد الإسلام فيها, ولا سبيل للمسلم في الخروج منها, في ستخفي بدينه, وتلك رخصة رخصت له تيسيرًا وتسهيلاً, وكل نفس وما تطيق.
ولأن التقية لا تجوز من الأئمة, الذين يُقتدي بهم حتي لا يضل الناس.. لأنهم إن نطقوا بغير ما يعتقدون وليس للناس علم ما في الصدور اتبعوهم في مظهرهم, يظنون أنه الحق الذي ارتضوه دينًا, وبذلك يكون الفساد عامًا ولا يخص. وحق علي الإمام أن يكون الممتحن المبتَلي, فتنتشر الفكرة السليمة, ويكون الابتلاء سبيل نشره او ذيوعها.
الحظر سلاح العاجزين:
لقد تعددت وسائل تعذيب أحمد بن حنبل مما يطول شرحه, فلما رأي الواثق أن كل ما نزل به من محن لم يزده إلا قوة وثباتًا ونشرًا لفكره, وحب الناس له, سمح له بالعودة إلي درسه ووعظ الناس, ورأي السلطان الناس يجتمعون عليه بدافع الحب والتقدير والحرص علي المعرفة والتفقه, ولا يقتل الحاكم حقدًا وغيظًا مثل اجتماع الناس علي واحد من رعيته, وازدياد شعبيته, فأصدر قرارًا «بحظر» نشاطه " فلا يجمع إليه أحدًا, ويقيم في داره, لا يخرج إلي صلاة, ولا يشهد جنازة, ولا يلقي درسًا…".
إنها وسيلة من وسائل الحاكم العاجز غير السوي: أن يحول بين الأتقياء والصالحين من العلماء والدعاة وبين الجماهير, وهي وسيلة ساقطة لا تحقق النتيجة التي ينشدها الحاكم الطاغية, لأن قلوب الناس لا يملكها إلا الله. والمحن لا تزيد أصحاب الدعوات إلا قوة وإيمانًا ويقينا, ولا تزيد الناس إلا حبًالهم واتباعًا واقتداء.
موعدنا معكم الجنائز:
مرض أحمد بن حنبل في بيته ببغداد, وسمع الناس بمرضه فأتوا من كل صوب وحدب يعودونه, وتزاحموا, ولزموا بابه, يبيتون في الشوارع حتي تعطلت الأسواق, وعجز الناس عن البيع والشراء, وكانوا يدخلون عليه أفواجًا يسلمون عليه ويخرجون, ونقلت الأخبار للخليفة المتوكل, فأرسل "قواته", فسدت الطرقات, و"حظرت" الدخول إلي الزقاق حيث يقع بيت الإمام أحمد.
وأراد المتوكل أن يساير الجماهير فأرسل إليه عبد الله بن طاهر يقول له إن الأمير يقرئك السلام, وهو يشتهي أن يراك. قال ابن حنبل: هذا والله مما أكره.
وفاضت روحه إلي خالقها, وحضر غسله مائة من بني هاشم, وخرج بنعشه ثمانمائة ألف من الرجال, وستون ألفًا من النساء, أي قرابة مليون مسلم ومسلمة يشيعونه إلي مثواه الأخير بعد أن صلّوا عليه, وراع ذلك الخليفة المتوكل… أن يكون لواحد من رعيته كل هذه الشعبية, فأمر بعض رجاله أن يمسحوا (أي يقيسوا) الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلّوا علي الإمام أحمد, فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف (أي مليونين وخمسمائة ألف من البشر). قال عبد الوهاب الوراق: "ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية, ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع علي جنازة أحمد بن حنبل".
وبعد وفاته تحققت له كرامتان:
الكرامة الأولي: أنه أسلم أعداد لا تحصي من غير المسلمين لما رأوا مشهد جنازته, ولم يروا ما يشبه هذا من قبل.
أما الكرامة الثانية: فإنه في حياته كان يجابه رجال السلطة, والمعارضين الحاقدين عليه بقوله: " موعدنا معكم الجنائز", أي: سيدركنا الموت, وسترون أينا صاحب المكان الأثير في قلوب الناس, وشهدت بغداد "جنازته المليونية", أما جنازات أعدائه فلم تكن إلا "عشرية" أو "مئوية" علي أكثر تقدير.
وهذا الحب الذي ليس وراءه شهوة دنيوية دليل علي حب الله لمن يحبه الناس. فلا عجب إذن أن نقرأ في السيرة النبوية أن عروة بن مسعود الثقفي- وكان علي كفره – لما رأي في الحديبية عام 6 هـ ما رآه من رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه, عاد إلي قريش وقال لهم: "يا معشر قريش, إني قد جئت كسري في ملكه, وقيصر في ملكه, والنجاشي في ملكه, وإني ما رأيت ملكًا في قومه قط مثل محمد في أصحابه, ولقد رأيت قومه لا يسلمونه لشيء أبدًا…".
وقد جذّر هذا الحب وقواه: الاقتناع بشخصية المحبوب وعظمته وما يظهر منه من أعمال عظيمة, وحرص علي الحق والخير والإحسان إلي الناس, وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر, وإيثار الأمة علي نفسه. وكل هذه الملامح تبريرات وعوامل موضوعية للاقتناع بالشخصية, والالتفاف حولها, والاقتداء بها في السراء والضراء, والمنشط والمكره. فالحب في المنظور الإسلامي لم يكن عاطفة منفوشة سطحية مشتطة, ولكنه كان شعورًا متجذرًا عميقًا صادقًا مدعمًا بإيمان صادق, ويقين حقيقي, واقتناع سوي منزه عن الشهوات والدنايا.
وما زال يرن في أذني, ويضيء حنايايّ كلمة أحمد بن حنبل رحمه الله للسلطان والمتسلطنين: "موعدنا معكم الجنائز" قالها بالأمس البعيد, وقلناها بالأمس القريب. ونقولها اليوم ونقولها كل يوم, فما أشبه الليلة بالبارحة.
والإمام أحمد لم يأخذه خوف وجبن أمام السياط, ولكن تمام الخبر أنه وهو في طريقه إلي التعذيب قال: "والله إني لا أخشي السيوف والموت, ولكنني أخاف السياط أن توقع بي من الألم ما يدفعني إلي الانصراف عن الحق, والتسليم بباطل القوم" فقال أحد حراسه: " لا تأس أيها الشيخ, فإنما هو السوط والسوطان, وبعدها لن تشعر بلذع السياط", وقد عرفنا أنه سُجن 28 شهرًا, وكان يتناوب جلده مائة وخمسون جلادًا, وصبر, وثبت, ورفض أن يساير معارضيه في رأيهم, ولو تقية, وكانت هذه المسايرة كفيلة بإعتاقه من السجن والعذاب. فهو لم يخف السياط حرصًا علي سلامة بدنه, ولكن خشية أن يشده الشعور بالألم إلي التخلي عما اعتقد أنه الحق.
وصف الجنازة:
– وقد يري بعضهم أنني بالغت في تقدير عدد الذين صلّوا علي الإمام أحمد, وشيعوه إلي مثواه الأخير, وذلك بوصفي الجنازة "بالمليونية". ويتساءل: كيف يصح هذا التقدير في زمن لم يعرف الكاميرات, ولا الآليات الحاسبة?
وأقول: لا تنس فراسة العربي, ومن العرب من يوصف بـ(الحزور) أي الفائق في "الحزٍر" أي التقدير, وفيهم " القفّاء " أي صاحب اقتفاء آثار الأقدام من بشر أو حيوان, وتبلغ دقة التقدير عند هؤلاء درجة قد تعجز عنها الآليات الحديثة ومازال "حراس الحدود" عندنا يستعينون بأمثال هؤلاء في كشف المهربين واقتفاء أثرهم.
ولكن الذي يهمني في هذا المقام أن أبرز الحقائق الآتية:
- مصداقية شهادة عبد الوهاب الوراق ونصها "ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية, ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع علي جنازة أحمد بن حنبل". وهناك شهادات كثيرة تشبه هذه الشهادة لا يتسع المقام لعرضها.
- أن أعدادًا كبيرة – من غير المسلمين – اعتنقوا الإسلام بعد أن اهتزت مشاعرهم لهذه التظاهرة الربانية.
- أن الحكام باضطهادهم لابن حنبل, وإبقائه في السجن وتعذيبه وضربه ساهموا – من حيث لا يقصدون طبعًا – في التفاف الناس حول هذا الإمام الممتحَن المظلوم, وفي زيادة شعبيته. وقد رأي بعينيه ذلك, وأحس بأن له رصيدًا ضخمًا من حب الناس, فكان يقول للحكام, وأذناب السلطة: "موعدنا معكم الجنائز".
وكل ما سبق إنما هو من كرامات هذا الإمام الصالح ساقها الله بعد موته. ومن السوابق في عهد النبي – صلي الله عليه وسلم – أن سعد بن معاذ – رضي الله عنه – لما مات – وكان رجلاً بدينًا – حمله الناس لدفنه, فوجدوا له خفة, فقال بعضهم: "ما حملنا من جنازة أخف منه وهو الرجل البدين" (أي الضخم ثقيل الوزن). فقال رسول الله – صلي الله عليه وسلم : "إن له حملة غيركم, والذي نفسي بيده, لقد استبشرت الملائكة بروح سعد, واهتز له العرش".
- الكاتب:
جابر قميحة \\\"رحمه الله\\\" - التصنيف:
المركز الإعلامي