أراد الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري أن يسير على نهج الإمامين الكبيرين: البخاري ومسلم في تصنيف كتاب يكون على شرطهما، أو على شرط أحدهما، وكان دافعه لذلك ما أثاره أهل البدع من أنه لم يصح من النصوص الحديثية إلا ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وبالتالي فلا زالت بعض أصول الدين مفتقرة إلى نصوص صحيحة تَثْبُتُ بها، واتخذوا ذلك ذريعة للطعن في الدين، فثارت حمية الصدق في قلبه وشمَّر عن ساعد الجد وصنّف "المستدرك على الصحيحين"، وقد ذكر ذلك في مقدمة كتابه فقال: "وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار، بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على ألف جزء أو أقل أو أكثر منه كلها سقيمة غير صحيحة، وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها أن أجمع كتابا يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها؛ إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له، فإنهما - رحمهما الله - لم يدعيا ذلك لأنفسهما".
وقد كان الإمام الحاكم حافظا ثبتا عارفا بالرجال وعلل الحديث، له عدة كتب تدل جميعها على جلالته وإتقانه، منها: معرفة علوم الحديث والإكليل في دلائل النبوة وعلل الحديث وتاريخ نيسابور، ورغم أن الإمام الحاكم أدركه الأجل قبل أن ينتهي من إتمام مراجعته ونقده لكتابه "المستدرك"، إلا أنه كان صاحب منهج متميز ومختلف عن غيره، رغم ما قيل عن تساهله في نقده للرجال وحكمه على الأحاديث، وسنحاول في هذه العجالة تسليط الضوء على منهجه في مستدركه.
أولاً: شروطه في أسانيد "المستدرك":
1- شرط الصحة العام: أن يكون الحديث متصل الإسناد، بنقل الثقة عن الثقة، من أوله إلى منتهاه، سالما من الشذوذ ومن العلة.
2- الرجال (الرواة): أن يكون جميع رواة الحديث قد خرِّج لهم في الصحيحين أو في أحدهما، وأن يكون كل راو من هؤلاء الرواة قد خرِّج لهم في الصحيحين عن شيخه الذي يروي عنه ذلك الحديث.
3- عدم تعمد الشيخين ترك تلك الرواية قصدا: أن يثبت لديه أن رجال هذا الحديث ممن تعمد البخاري ومسلم الإخراج عنهما، ولم تقع رواية هؤلاء الرواة في الصحيحين أو أحدهما اتفاقاً لا قصداً.
ثانياً: مقصوده بـ"شرط الشيخين أو أحدهما":
اختلف العلماء في مُراد الإمام الحاكم بشرط الشيخين أو أحدهما في مستدركه، ومرجع هذا الاختلاف يعود إلى فهم كلامه في مقدمة المستدرك حيث قال: "وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها أن أجمع كتاباً يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها"، ثم قال بعد ذلك: "وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما، وهذا هو شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام: أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة، والله المعين على ما قصدته وهو حسبي ونعم الوكيل".
فقول الحاكم في الموضعين: "بمثلها" اختلف العلماء في مراده بها:
فمنهم من قال: إن المقصود بمراده بالمثلية: هو نفس الرواة الذين أخرج لهم الشيخان أو أحدهما، ويعبر عن ذلك بأنه أراد المثلية الحرفية، قال الإمام النووي: "إن المراد بقولهم: على شرطهما: أن يكون رجال إسناده في كتابيهما؛ لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما"، وقال الإمام العراقي: "وهذا الكلام قد أخذه من ابن الصلاح حيث قال في شأن المستدرك: أودعه ما رآه على شرط الشيخين قد أخرج عن رواته في كتابيهما"، وقال الإمام العراقي أيضاً: "وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد، فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلاً، ثم يعترض عليه لأن فيه فلاناً ولم يخرج له البخاري، وكذلك فعل الذهبي في تلخيص المستدرك".
ومنهم من قال: "بل المراد بالمثلية: المثلية المجازية، ويعنون بها أن المقصود وصف الرواة الذين احتج بهم الشيخان أو أحدهما، وهذا يعني أن الحاكم يخرج لرواة لم يرو لهم الشيخان أو أحدهما، ولكنهم موصوفون بتوثيق يماثل في درجته درجة من أخرج لهم الشيخان".
وقد قال الإمام العراقي رداً على ابن الصلاح وابن دقيق العيد والذهبي في قولهم السابق: "وليس ذلك منهم بجيد؛ فإن الحاكم صرح في خطبة المستدرك بخلاف ما فهموه عنه، فقال: "وأنا أستعين الله تعالى على إخراجي أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما"، فقوله: "بمثلها" أي بمثل رواتها لا بهم أنفسهم، ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث، وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها، وفيه نظر".
ومن هنا نفهم أن الإمام العراقي يرجح أن مراد الحاكم أوصاف رواة الشيخين أو أحدهما لا نفس الرواة، وعلى رأي العراقي يكون الحاكم قد أصاب في جملة كبيرة من الأحاديث ما دام الراوي ليس مضعفاً ولا متكلماً فيه، بل هو ثقة، فلا يضر حتى لو لم يخرج له الشيخان، ويعتبر هذا الحديث على شرط الشيخين.
وقد عارض الحافظ ابن حجر شيخه العراقي في هذا، وقرر أن الحاكم في تصرفه في "المستدرك" يريد نفس الرواة، فقال الإمام ابن حجر: "ولكن تصرف الحاكم يقوي أحد الاحتمالين الذين ذكرهما شيخنا -رحمه الله- ، فإنه إذا كان عنده الحديث قد أخرجا أو أحدهما لرواته - قال: صحيح على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما، وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له - قال: صحيح الإسناد فحسب".
وقال الإمام ابن حجر أيضاً: "ويوضح ذلك قوله في باب التوبة لما أورد حديث أبي عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، قال: هذا حديث صحيح، وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي، ولو كان هو النهدي لحكمت بالحديث على شرط الشيخين"، فدل هذا على أنه إذا لم يخرج البخاري ومسلم لأحد رواة الحديث فلا يحكم به على شرطهما، وهو عين ما قاله ابن دقيق العيد وغيره.
ولكن الإمام ابن حجر وجد أيضاً أن هناك أحاديث متعددة في "المستدرك" قرر الإمام الحاكم تصحيحها على شرط الشيخين أو أحدهما، وفي رواتها من لم يخرج له الشيخان أو أحدهما، فلم يسعه إلا أن يحمل ذلك على السهو والنسيان من الحاكم؛ حيث قال: "وإن كان الحاكم يغفل عن هذا في بعض الأحيان فيصحح على شرطهما بعض ما لم يخرجا لبعض رواته، فيحمل ذلك على السهو والنسيان، ويتوجه به حينئذ عليه الاعتراض".
ثم إن الحافظ ابن حجر استدل على ذلك بدليل قوي جداً حيث قال فيما معناه: "إن مما يؤيد أن الحاكم أراد نفس الرواة وليس من يماثلهم - أننا نجده أحياناً يقول: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، فلو أراد المثلية المجازية لقال: على شرط الشيخين؛ لأن شرط البخاري أقوى من شرط مسلم، وشرط مسلم داخل فيه، ولكنه لما وجد في بعض رجال الإسناد من أخرج له البخاري ولم يخرج له مسلم صححه على شرط البخاري؛ لأنه يرى أن مراد الحاكم منصبٌّ على نفس الرواة".
ثالثاً: منهجه في ترتيب أحاديث "المستدرك":
رتب الإمام الحاكم كتابه "المستدرك" على أبواب الفقه، واتبع في ذلك ترتيب البخاري ومسلم في صحيحيهما، لكونه بنى كتابه على استدراك ما فاتهما على شرطهما أو شرط أحدهما.
رابعاً: منهجه في تكرار الحديث:
دأب الإمام الحاكم على تكرير بعض النصوص في موضعين أو أكثر من الكتاب، بنفس السند أو بإسناد مغاير، ومردُّ ذلك إلى التراجم التي صاغها؛ حيث لا يفوته الاستدلال بالنص الواحد على قضايا مختلفة، تكثيرًا لدلالة النص, وقد يُخرج الحديث بإسناد، ثم يعقبه بإسناد آخر أو أكثر من إسناد، إذا كان بالسند وجه من وجوه الضعف.
وقد لخّص الإمام الذهبي المستدرك في مصنف بعنوان: "تلخيص المستدرك"، وقال عن ذلك في سير أعلام النبلاء: "وبكلّ حالٍ فهو -أي مستدرك الحاكم- كتابٌ مفيدٌ قد اختصرته، ويعوز عملاً وتحريراً".
خامساً: منهجه في بيان طرق الحديث واختصارها:
الأصل في إخراج الأحاديث بأسانيدها أن يُفرَد كل حديث بالرواية سنداً ومتناً، ولكن خشية التطويل دفعت الأئمة - ومنهم الإمام الحاكم - إلى اتباع طرق للاختصار، منها:
1- جمع الشيوخ بالعطف: جمع بين شيوخه بالعطف بحرف الواو، طلبا للاختصار، وعدم تكرار الجزء المشترك من الإسناد بأكمله، ومن ذلك قوله في مستدركه: "حدثنا أبو بكر بن إسحاق وأبو بكر بن سلمان الفقيهان، قالا: ثنا عبيد بن شريك، ثنا يحيى بن بكير.." الحديث.
2- ذكر بعض الطرق أو جزء من حديث والإشارة إلى الباقي للاختصار: إذا كان للحديث أكثر من إسناد أو متن، فإنه قد يذكر بعضها ويشير إلى باقيها، دون أن يذكرها بطولها، قال الإمام الحاكم في مستدركه بعد أن ذكر أحد الأحاديث: "وهكذا رواه بطوله معاوية بن سلام، وأبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير".
3- ذكر المتابعات أو الشواهد: إذا تابع الراوي غيره من الرواة فإنه يذكره بعد إتمام الحديث، ومن ذلك فعله بعد أن أورد حديث النهي عن مفارقة الجماعة، حيث قال: "تابعه أبو عاصم عن كثير"، وقال بعد إيراد حديث آخر: "رواه سفيان الثوري عن عبد الله بن سعيد"، وأما الشواهد فإنه يذكرها إذا أراد تقوية الحديث، وقد فعل ذلك في مواطن كثيرة، منها قوله بعد أحد الأحاديث: "على أن شواهد هذا الحديث مخرجة في الصحيحين، فمنها: حديث الأعمش..".
سادساً: منهجه في نقد الرجال:
كان الإمام الحاكم يجتهد في توثيق الرواة أو تضعيفهم، ويُزاحم الكبار في ذلك، ويعتمد الحجة في الرد على من يخالفه، ولكننا لو نظرنا إلى تقييم الأئمة لما أورده الإمام الحاكم في مستدركه لوجدنا أن عباراته فيها شيء من التساهل.
قال الإمام الذهبي: "في المستدرك جملة وافرة على شرطيهما أو شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وفيه بعض الشيء، وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير واهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضوعات، وهذا الأمر مما يتعجب منه، فإن الحاكم كان من الحفاظ البارعين في هذا الفن، ويقال: إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره، وقد اعترته غفلة".
وقال الإمام الحافظ ابن حجر: "إنما وقع للحاكم التساهل لأنه سوّد الكتاب لينقحه فعاجلته المنية ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه"، وقال كثير من المحدثين: "ما انفرد الحاكم بتصحيحه مخالفا لأئمة الحديث، فإنه يبحث عنه ويُحكم عليه بما يقضي به حاله من الصحة أو الحسن أو الضعف".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه صحيحا، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه، بخلاف أبى حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً، وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع ، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم".
وتكلم عنه الإمام ابن رجب الحنبلي فقال: "وقد صنف في الصحيح مصنفات أُخر بعد صحيحي الشيخين، لكن لا تبلغ كتابي الشيخين، ولهذا أنكر العلماء على من استدرك عليهما الكتاب الذي سماه "المستدرك"، وبالغ بعض الحفاظ فزعم أنه ليس فيه حديث واحد على شرطهما - وهو بهذا يشير إلى كلام أبي سعيد الماليني رحمه الله -، وخالفه غيره فقال: يصفو منه حديث كثير صحيح، والتحقيق: أنه يصفو منه صحيح كثير على غير شرطهما، بل على شرط أبي عيسى ونحوه، وأما على شرطهما فلا".
سابعاً: منهجه في صنوف متفرقة:
1- أقسام الحديث (الحسن كالصحيح): كان الإمام الحاكم لا يرى التفريق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن، فالحسن عنده قسم من الصحيح وهو داخل فيه، ومنهجه في ذلك كالإمامين ابن خزيمة وابن حبان.
2- تقاسيم ما أورده من أحاديث: لم يلتزم الإمام الحاكم بما ألزم به نفسه من إخراج الأحاديث التي هي على شرط الشيخين أو أحدهما، بل تفاوت ما أخرجه بين خمسة أنواع، وهي كما يلي:
أولها: أحاديث التزم فيها بشرطه: أي كانت على شرط الشيخين أو أحدهما ولم يخرجاه أو لم يخرجه أحدهما، ويكون مصيبا في كلامه.
ثانيها: أحاديث لم تخرج في أصول الصحيحين أو أحدهما: عندما يكون البخاري ومسلم أو أحدهما لم يخرج حديثا في الأصول، ويرى أنه يستحق أن يكون من الأصول، يورده ثم يقول عنه: هذا على شرط الشيخين، ولكنهما لم يخرجا هذا السياق في الأصول وإنما خرجاه في الشواهد، أو يقول: هذا على شرط البخاري، ولكنه لم يخرج هذا السياق في الأصول وإنما خرجه في الشواهد، أو يقول: هذا على شرط مسلم، ولكنه لم يخرج هذا السياق في الأصول وإنما خرجه في الشواهد.
ثالثها: أحاديث لم يلتزم فيها بشرطه: أورد الإمام الحاكم بعض الأحاديث وصححها، أو حكم عليها بأنها على شرط الشيخين أو أحدهما، وهي حسنة؛ لأنه لا يفرق بين الصحيح والحسن، فالحسن عنده قسم من الصحيح، أو حكم عليها بأنها على شرط الشيخين أو أحدهما أو صححها، وهي ضعيفة ضعفا محتملاً أو ضعفا شديداً.
رابعها: أحاديث يستدركها على الشيخين أو أحدهما: رغم أنهما خرجاها أو خرجها أحدهما، ولكنه خفي عنه ذلك.
خامسها: أحاديث موضوعة: وهي تقارب مائة حديث، جمعها الإمام الذهبي في مصنف مستقل.
3- دفع الإيهام الذي قد يتبادر للذهن: وذلك عندما يخرج حديثاً قد يتوهم البعض أنه غير صحيح لأجل أحد رواته أو شبهة عدم سماع أحد الرواة من الآخر فإنه يعقِّب ببيان ذلك، ومن ذلك أنه أخرج حديثاً لسعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد، وأبو صالح فقد احتج به البخاري، وأما سماع سعيد عن عمر فمختلف فيه، وأكثر أئمتنا على أنه قد سمع منه، وهذه ترجمة معروفة في المسانيد".