الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحرب على الإباحية.. قبل أن يصبح التغيير مستحيلاً!

الحرب على الإباحية.. قبل أن يصبح التغيير مستحيلاً!

الحرب على الإباحية.. قبل أن يصبح التغيير مستحيلاً!

قبل بضعة عقود فقط، كان للإباحية مفهوم واضح ومحدد، ولم تكن العائلات تخشى على أبنائها وبناتها طالما تمكن الأهل من إحكام الرقابة، فشاشات التلفزيون لم تكن تتيح أكثر من قناتين أو ثلاث تتبع للحكومة، والأفلام الرومانسية كانت تُعرض غالباً بعد منتصف الليل مع إخضاع بعض المشاهد الفاضحة لمقص الرقيب.
التغيير في جيلنا الحالي لا يقتصر على الانفتاح أمام مئات القنوات، ولا على إمكانية وصول الصور والأفلام الفاحشة إلى يد المراهقين عبر الإنترنت والجوال، فالمصيبة الأكبر في رأيي هي في تغير مفهوم الإباحية نفسه، وفي عدم الاتفاق على حدود الممنوع والمسموح.

لم تتجاوز الأفلام الرومانسية قديماً – على سوئها- حدود الحب المفضي إلى الزواج، وبالرغم من كل مشاهد الرقص والقبلات وإثارة الغرائز فقد كان الهدف في النهاية هو زواج بطل الفيلم من عشيقته الحسناء، أما اليوم فلم تعد مشكلتنا فقط مع وجود هذه اللقطة أو تلك، بل مع القصة نفسها التي تقوم عليها الأفلام والمسلسلات وحتى الرسوم المتحركة!
كتبنا وكتب الكثيرون قبل سنوات عن الكوارث الأخلاقية التي يتسبب بها بضعة رجال أعمال ومتنفذين عرب ممن يستثمرون في فتح القنوات الفضائية غير المسئولة، وتساءلنا عن شرعية سيطرة هؤلاء على عقول البشر من خلال ما يبثونه بلا حسيب ولا رقيب.
المراهقون والمراهقات يتابعون كل يوم تقريباً مشاهد تجمع بين شاب وفتاة على الفراش مع غطاء مشترك يستر جسدين عاريين.

الرقابة هنا تدافع عن نفسها بأن المشهد ليس إباحياً، فليست هناك قبلات ولا سلوك جنسي ولا كلمات بذيئة، ولكنهم لا ينكرون أن قصة الفيلم كلها مبنية على الإباحية، وعلى شرعية الحمل قبل الزواج، بل إن بعض الأفلام التي تشاهد على هذه القنوات تروّج للجنس والحمل دون زواج بكل وضوح، حتى إن فكرة أحد الأفلام كانت تدور بالكامل حول السخرية من والد الخطيبة ذي العقلية المتخلفة لانزعاجه من حمل ابنته قبل عقد القران، بينما كان أهل العريس وجميع من في الفيلم يذكّرون الرجل بأن الزنا أمر مقبول في القرن الحادي والعشرين، وقد انتصر موقفهم في النهاية!
المسلسلات التركية التي أدخلتها القنوات العربية حديثاً زادت من سوء ما بقدم ، فما زال المتكسبون من بث هذا الفحش يدافعون بخلو المشاهد من القبلات الساخنة، ويدعمون موقفهم بأن مصدر هذه الأعمال بلد مسلم، ولكن المضمون الفاحش الذي استفز المعارضين بقوة أكبر وجعلهم ينتبهون إلى ما كان غائباً عن أذهانهم في الأفلام الأجنبية.

هذه القنوات "العربية" تجاهلت الرأي العام واستخفت بعقول الناس وأخلاقهم وعقائدهم، بل إن بعضها تحالف مع قنوات الصهيونية "روبرت مردوخ" لإنشاء قناتين جديدتين لبث ما تنتجه شركة "فوكس" بترجمة عربية، ففي إبريل 2008م، بدأت "فوكس للأفلام" بث أفلامها بسقف رقابة شبه معدوم، ثم تبعتها "فوكس للمسلسلات" بالطريقة نفسها.
هنا يبدو أن كل ما سبق قوله من نقد واحتجاج ليس مسموعاً، ولماذا يُسمع طالما لم يخرج عن دائرة المقالات والبرامج الحوارية ولم يصل إلى درجة الغضب الشعبي؟.. قنوات فوكس لا تعترف بمقص الرقيب الذي اضطرت بعض القنوات " العربية" إلى استخدامه، ولا تبالي بما يقال ما دامت غرائز الشباب تكفل لهم نسبة مشاهدة معقولة، ولن نتحدث هنا عن أي مؤامرة يقف وراءها أمثال "مردوخ"!

أحد الأمثلة القريبة مسلسل "عائلة سمبسون" الكرتوني الشهير، والذي بدء أول موسم له قبل عشرين سنة في الولايات المتحدة ونجح في استقطاب ملايين المشاهدين من الكبار والصغار، قامت بعض قنواتنا بدبلجته تحت اسم "عائلة شمشون"، واقتطعت منه الكثير من المشاهد، أما قناة "فوكس للمسلسلات"، فلم تجهد نفسها لا في الدبلجة ولا في الرقابة، وما زالت تعرض المسلسل الكرتوني الذي نجد فيه نفس المشاهد التي نراها في أفلام الكبار، فهناك شاب وفتاة يجمعهما الفراش مع غطاء مشترك ، وهناك من يدمن على الكحول ويذهب إلى جلسات العلاج، وهناك حديث واضح ومكشوف عن الجنس، والمسلسل يعرض في الأوقات الذي يعتاد الأطفال فيها على متابعة أفلام الكرتون، والأهل لا يجهدون أنفسهم عادة في مراقبة ما يشاهده أطفالهم ولا يعرفون أصلاً أن هناك ثمة كرتون للكبار فقط !
في جعبتي عشرات الأمثلة، من أفلام ومسلسلات وحتى إعلانات تجارية تعرض على هذه القنوات وتروج للإباحية بكل صفاقة، نعم قد يخلو البعض من المشاهد الساخنة، ولكن الجنس والحب قبل الزواج قد أصبحا مألوفين كثيراً لكل من يعتاد المشاهدة، وقريباً ستتغير المفاهيم في المجتمع مع زوال الحاجز النفسي ودوام الألفة والاعتياد، ولن يحتاج هؤلاء إلى إقناعنا بالعقل والحجة فلديهم من الصبر ما يكفي لانتظار النتائج على مهل، وكما نرى فالتغيير أسرع مما نتوقع ولا يحتاج إلى الكثير من الصبر.

قبل خمسين سنة فقط، استنكر آباؤنا الفحش في السينما، وكان الأمر مقصوراً على الأفلام التي تعرض في دور يقصدها الشباب، وبعد فترة وجيزة بدأت التلفزة الحكومية بنقل هذه الأفلام إلى داخل البيوت واكتفت بعرضها بعد منتصف الليل. اعتاد الناس على المشاهدة والصمت، وسقطت الحواجز النفسية، ولم يعد هناك من يعترض.
قبل خمس عشرة سنة، خرج الإعلام عن يد الحكومة، وبدأ رجال الأعمال المتنفذون ينافسون الحكومة على التحكم في رأي الشعوب وثقافتهم وأذواقهم. استنكر الناس كعادتهم في البداية، وانطلق الدعاة في ترهيب من يمتلك الأطباق اللاقطة وحتى ملاحقتهم، دون أن يفعلوا شيئاً في حق من يمتلك القنوات ويتحكم في البث، ثم اعتاد الناس مشاهدة الأفلام الأجنبية التي كانت مقصورة على دور العرض ومحلات تأجير الفيديو، وأصبحت الأفلام تعرض على مدار الساعة بالمجان. لم يعد هناك من يعترض، بل هناك من يشكر القنوات على هذه الخدمة المجانية.

قبل سنوات قليلة جداً كنا نناضل لمنع الكليبات الفاضحة، لم ننجح أيضاً في ذلك، وهدأت موجة النقد، فيما تضاعف عدد القنوات المتخصصة في هذا الفحش، وتحولت فتيات الإثارة إلى نجمات، واعتاد الناس على تقبل وجودهن الدائم على الشاشة، بل وعلى سماع آرائهن في المجتمع والسياسة. لم يعد الفحش مقبولاً فقط، بل أصبح شرطاً للنجاح، حتى اندفعت فنانات مخضرمات إلى التعري للحاق بالركب، ولم يعد يعترض أحد!
ما هو التالي؟!.. إلى متى يستمر هذا الخنوع والضعف؟.. الاكتفاء بالمقالات وبرامج الحوار لم يعد كافياً، فلا بد من غضب شعبي يجبر صناع القرار على التحرك. مائة دعوى قضائية فقط كانت كافية لتغيير اتجاه الكثير من الأمور عندما ظهر "المجاهر بالمعصية" على إحدى هذه القنوات ليتحدث عن فواحشه في جدة، فلماذا لا يتكرر الأمر في حق البقية؟ ولماذا لا يكون هناك تنظيم وتحرك مدروس لإنقاذ هذا الجيل والأجيال القادمة؟ ولماذا لا نتحرك الآن قبل أن يصبح التغيير مستحيلاً؟
________________
مجلة العصر 28/11/2009م بـ"تصرف"

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

ثقافة و فكر

من وظائف الأدب

كان ولا يزال للأدب دور محوري في حياة الشعوب، فالأدب أحد أعمدة البناء في المجتمعات كلها، فقد عرف الإنسان الحداء،...المزيد