تدور المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين على طريقة الباعة في سوق الجمعة. يسأل التاجر عن سعر السلعة، ويقول البائع ثمنها خمسون، ويرد المشتري قائلا أدفع ثلاثين، ثم يتواصل الجدل بينهما مقتصراً على كلمتين فقط: خمسون... ثلاثون. خمسون... ثلاثون... إلى أن يمل أحدهما ويرضخ للآخر.
ويجري الأمر نفسه بين أحمد قريع وتسيبي ليفني. أحمد قريع يقول المستوطنات. وتسيبي ليفني تقول الإرهاب، ثم تتعالى الأصوات وتقتصر على كلمتين فقط: مستوطنات... إرهاب. مستوطنات... إرهاب. إلى أن ينفض السوق ويعود كل طرف إلى موقعه.
ولا نعتقد أن الأمور ستخرج عن هذا السياق، عندما يلتقي الرئيس محمود عباس مع رئيس الوزراء إيهود أولمرت، إذ سيجدان كلمتين يتبادلانهما. عباس سيقول أنابوليس، وأولمرت سيقول خارطة الطريق. وبين أنابوليس وخارطة الطريق سينتهي اللقاء من دون نتيجة، وعلى غرار اللقاءات الثمانية الشهيرة بينهما.
هل ثمة أمل بمواصلة المفاوضات بعد ذلك؟ صائب عريقات يعتقد أن الأمل موجود، إذ هناك اتفاق في أنابوليس على لجنة تحكيم أميركية ـ إسرائيلية ـ فلسطينية، وسيطلب أن تجتمع هذه اللجنة لتقرر من هو المصيب ومن هو المخطئ. وثمة أمل آخر يتطلع إليه، ربما، الرئيس عباس، فالرئيس الأميركي قادم شخصياً إلى المنطقة ليبث الأمل في المستقبل، فهل سيفعل ذلك؟ لقد سبق للرئيس عباس حين كان رئيساً للوزراء أن واجه المعضلة نفسها مع آرييل شارون، فذهب يشكوه إلى الرئيس الأميركي طالباً منه الضغط عليه. وقد سمعناه يفعل ذلك أمام عدسات التلفزيون، وسمعنا الرئيس الأميركي يرد عليه أمام عدسات التلفزيون. قال له: كيف أستطيع أن أضغط عليه؟ أنا قدمت خارطة الطريق، وأيدت إنشاء دولتين، والبقية تعتمد عليكما. ولا نعتقد الآن أن لدى الرئيس الأميركي جواباً آخر يقدمه للرئيس الفلسطيني. وهو إن اجتهد وحاول تقديم جواب آخر، سيبرز له أولمرت رسالته الرسمية إلى آرييل شارون، والتي يؤكد له فيها دعمه لبناء المستوطنات الإسرائيلية، لأن «الوضع الديمغرافي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار» في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، حسبما يفهم من تلك الرسالة النادرة، والتي يقف فيها رئيس دولة عظمى ضد القانون الدولي وضد اتفاقية جنيف بشأن الحرب وبشأن الاحتلال وضوابطه. ولكن لندقق قليلاً في المسألة. إن الوفد الفلسطيني عاقل ومعتدل، وهو لا يطلب موقفا أميركياً أو إسرائيلياً ضد الاستيطان، إنه يطلب فقط أمرين:
أولاً: إزالة المستوطنات التي أنشئت بعد العام 2001. وهذا قد يعني أنه يوافق على بقاء المستوطنات التي أنشئت قبل ذلك.
ثانياً: إنه يحتج على (توسيع) المستوطنات المحيطة بالقدس، ويطالب بوقف (التوسيع) فقط. وهو لا يتطرق إلى بحث مصير المستوطنات نفسها... معاذ الله.
وقد عبر الرئيس عباس عن ذلك بوضوح حين قال في خطابه أمام مؤتمر باريس الاقتصادي ما نصه «إنني أتوقع وقف كل النشاطات الاستيطانية بدون استثناء، وإزالة 127 بؤرة استيطانية أقيمت منذ العام 2001». والكل يعرف أن إزالة «البؤر» الاستيطانية التي بادر إليها المستوطنون بقرار منهم شيء، وإزالة المستوطنات «الرسمية» و«القانونية» و«الأمنية» حسب الأوصاف الإسرائيلية، والتي أقيمت بقرار من الحكومة أو من وزارة الدفاع، شيء آخر.
ويجب أن لا ننسى هنا، أن الرئيس عباس طلب من الرئيس المصري أن يتوسط، أو أن يضغط، على الإسرائيليين لتليين موقفهم في موضوع الاستيطان. وقد فعل الرئيس المصري ذلك في لقائه قبل أيام مع إيهود باراك وزير الدفاع في شرم الشيخ، وكان رد باراك كما يلي:
1 ـ نحن لا نبني مستوطنات جديدة... خارج الجدار (الفاصل). وهكذا أصبح الجدار معيار الحدود.
2 ـ هناك حاجة لبعض التوسعات. (لمواجهة ازدياد عدد السكان).
3 ـ المستوطنات في القدس... ليست جزءاً من الخلاف بيننا وبين الفلسطينيين. (باعتبار أن القدس خارج نطاق المفاوضات).
وحين يقدم هذا الجواب من "إسرائيل" إلى أكبر دولة عربية. وحين يقال هذا الجواب علناً في مؤتمر صحافي في شرم الشيخ، فإن مجرى التفاوض الإسرائيلي سيتواصل بعد ذلك على النهج نفسه. ولقد كانت بادرة الاحتجاج المصري الوحيدة، أن باراك عقد مؤتمره الصحافي منفرداً، ولم يشاركه فيه مسؤول مصري آخر.
نخرج من هذه التفاصيل كلها (هل هي تفاصيل؟؟) لنقول: إن هذه التفاصيل تستند إلى وتنبع من «خارطة الطريق». ويبدو أن خارطة الطريق هذه ستدخل التاريخ على أنها الخطة التي أفشلت المفاوضات وقضت عليها. فهي جاءت في عهد آرييل شارون الذي دمر اتفاق أوسلو وسلطة الحكم الذاتي وأعاد احتلال الضفة الغربية. وهي جاءت في ظل توجه شارون نحو الحل المنفرد، أي نحو الحل المفروض، الذي يعرض على الفلسطينيين للموافقة لا للتفاوض. ولذلك تمت صياغة خطة خارطة الطريق بحيث تتضمن رؤية "إسرائيل" لما تريده لنفسها، ورؤيتها لما تطلب من الفلسطينيين الانصياع له. وهذا ما يحدث الآن بصدد البند الأول، وبصدد السطر الأول، من خارطة الطريق، حتى بعد ما أضافت إليها "إسرائيل" خمسة عشر تحفظاً.
وهنا لا بد من الإيضاح والتذكير والتشديد، بأن المبادرة العربية للسلام لا مكان لها في هذا المسار التفاوضي. فهي لم يرد لها أي ذكر في وثيقة أنابوليس النهائية، وهي لم يرد لها أي ذكر في خطة خارطة الطريق، والمفاوض الفلسطيني وحده هو الذي يقول (ولنفسه فقط) إنه يذهب إلى المفاوضات متمسكا بمبادرة السلام العربية، ثم ينتهي مفعول هذا الموقف بعد انتهاء قوله، ليبدأ بعد ذلك الاحتكام إلى خارطة الطريق.
ما هو البعد الاستراتيجي، وما هو الهدف الاستراتيجي من هذا التوقف الإسرائيلي العنيد أمام هذه التفاصيل؟
حين يصر الإسرائيليون على إثارة موضوع الاستيطان، وحين يصرون على استبعاد القدس من المفاوضات، وحين يطرحون موضوع تبادل الأراضي، وحين يصلون إلى ضرورة تغيير حدود 1967، يدفعون بالمفاوضات نحو الفشل. وهم يعرفون ذلك ويسعون إليه، ومن أجل أن يصلوا إلى بند آخر، وإلى سطر آخر، في خارطة الطريق يتحدث عن اقتراح الدولة المؤقتة. أي دولة في إطار الحكم الذاتي، بعيداً عن القدس، وبعيداً عن المستوطنات، وبعيداً عن الحدود، وبعيداً عن المياه والمعابر. إنهم يعرفون أن المفاوض الفلسطيني يرفض فكرة الدولة المؤقتة، ولكن حين تصل الأمور إلى الطريق المسدود، لا يبقى أمام الفلسطينيين سوى قبول الدولة المؤقتة، وهنا بيت القصيد.
نجزم أن المفاوض الفلسطيني يعرف هذا كله. ولكن الأمور أصبحت تحتاج إلى قرار جريء لمواجهة هذا الوضع. تحتاج أولاً إلى قرار جريء يقضي بالتوقف عن مواصلة هذه المفاوضات العبثية. وتحتاج ثانياً إلى مصارحة الذات بأن حصر المفاوضات في الإطار الفلسطيني، وبعيداً عن الإطار العربي، لن يفتح الباب أمام تعديل مسارها بما يناسب المصلحة الفلسطينية. وتحتاج ثالثاً إلى إجراء مصارحة مع العرب بواقع الحال، وبضرورة العمل معهم من أجل دفع مبادرة السلام العربية نحو المقدمة. وتحتاج رابعاً إلى وضع خطة فلسطينية ـ عربية لدفع الأمور باتجاه إحداث تغيير في السياسة الأميركية. ومن دون هذا كله فإن لعبة التفاوض الإسرائيلية ستسير نحو نهايتها. والقادة الفلسطينيون هم المسؤولون عن التنبيه والتحذير وطلب التغيير، وإلا فإن الثمن الذي سيدفعونه سيكون غالياً.
ــــــــــــــــــــــــ