ولاية الحسبة من الولايات الشرعية العامة الخاضعة لسلطة الدولة، حيث تجب على الإمام بحكم وظيفته في حفظ الدين على أصوله المستقرة وتنفيذ أحكامه، ورعاية حقوق الناس ومصالحهم. ولذلك كان الخلفاء في العصور الأولى للإسلام يباشرونها بأنفسهم، ثم أسندوا أمرها إلى والٍ خاص يُعْرَف بالمحتسب، وأُعطي من الصلاحيات و الأعوان بحيث يقوم بها خير قيام، فيمشي في الأسواق والشوارع ويقتحم أبواب المؤسسات العامة والدوائر الحكومية، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء تعلق ذلك بقيمة من قيم الإسلام معطلة أو بحق من حقوق الناس مهدر، مهما كان مركز ذلك الفاعل للمنكر، فيدخل المحتسب على الأمراء والولاة وينكر عليهم، ويأمرهم بالشفقة على الرعية، والإحسان إليهم، ويذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم مثل: «ما من عبد استرعاه الله رعية، ولم يحطـها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة»(صحيح البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من وال يلي رعية من المسلميـن، فيمـوت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة»( صحيح البخاري)، ويبين لهم خطر الولاية. ولا يسلم الوالي إلا بمخالطة العلماء والصلحاء وفضلاء الدين ليتعاونوا معه على طريق العدل.
ومن أعظم خصال الوالي وأحمدها توقياً في نفوس الخاصة والعامة، إنصافه من خاصته وحاشيته وأعوانه، وتفقدهم في كل ساعة، ويمنعهم أن يأخذوا فوق ما يستحقون، ويدخل على القضاة في محاكمهم، فإذا رأى القاضي قد اشتاط على رجل غيظاً أو شتمه أو احتدّ عليه في كلامه ردعه عن ذلك، ووعظه، وخوفه الله عز وجل، فإن القاضي لا يجوز لـه أن يحكم وهو غضبان، ولا يقول هجراً ولا يكون فظاً.
ويراقب المحتسب التجار والصناع، ويشرف على أحوالهم، ويطالع أخبارهم، فيقر المعروف وينكر المنكر، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، وكل تاجر من الغش في بضاعته.
فعلى المحتسب أن يأخذ على يد الظالم، وأن يحارب الجريمة والانحراف قبل أن يستفحل خطرها ويشتد أمرها، وتفتك بالناس في المجتمع؛ وإلا كان مسؤولاً عن ذلك، ومن ورائه الدولة التي عينته، قال تعالى: (( لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) (المائدة: 78-79).
وإذا جاز للمحتسب اقتحام الدوائر الحكومية العامة، من إدارة الوالي والمحكمة الشرعية وغير ذلك، فلا يجوز لـه اقتحام بيوت الناس الخاصة والتجسس عليهم، وروى الخلال عن أحمد بن حنبل: «أنه سئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه، فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش». وقال ابن تيمية: «إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه».
وقال الماوردي: «وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»(الموطأ)، وقولـه صلى الله عليه وسلم: «إنك أن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أوكدت أن تفسدهم»(أبو داود)، وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته».
واستثنى الماوردي من عدم جواز التجسس على الناس حالة واحدة: وهي ما إذا كانت الجريمة على وشك الوقوع، ونقلها إلى المحتسب ثقةٌ عدلٌ. أما إذا لم تكن على وشك الوقوع أو لم يخبر بها ثقة عدل، فلا يجوز التجسس واقتحام البيوت الخاصة للناس، حيث قال: «فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارات دلت وآثار ظهرت فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها: مثل أن يخبره من يثق في صدقه أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو برجل ليقتله؛ فيجوز لـه في مثل هذه الحالة أن يتجسس، ويقوم على الكشف والبحث حذراً من فوات مالا يُستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات... وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والبحث في ذلك والإنكار. والضرب الثاني: ما خرج من هذا الحد وقصر عن حد هذه الرتبة؛ فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه».
هذا يدل دلالة واضحة على أن تشريع الحسبة يحمي الحياة الخاصة للإنسان، فلا يجوز التجسس عليه ولا مراقبته بحجة المصلحة الوطنية، ولا التنصت على مكالماته الهاتفية وغير ذلك.
ــــــــــ
*الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير ، باختصار.