لابدّ من التذكير، بين الحين والحين، بقيمة الخطاب الأدبي والفني قبالة الجفوة والإهمال اللذين تعّرضا لهما، ولا يزالان، عبر العقود الأخيرة من قبل العديد من الإسلاميين.
إنهم يعتبرون الأدب، والفن، أمراً ثانوياً، وعبثاً، وتضييعاً للوقت، بل إن بعضهم يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، فيرى في الآداب والفنون بوابات للفساد ومزالق تقود إلى حافات المروق والضلال.
وهم ينظرون بدهشة إلى كل أولئك الذين يبدون اهتماماً بالقصة والرواية والمسرح، والفنون السمعية والبصرية عموماً، ويحكمون عليهم بأنهم قد اختاروا الأدنى وفرطوا بأولويات التعامل المعرفي التي تحتّم على المسلم ألاّ يقرأ أو يدرس إلا العلوم الشرعية التي تفقّهه في أمور دينه وتزيده قرباً من الله سبحانه.. وهكذا يصير النشاط الأدبي والفني في نظرهم أحبولة يمدها الشيطان؛ لإبعادهم عن هذه المطالب وإيقاعهم في شرَك الغواية والضلال.
وزادهم اقتناعاً برؤيتهم هذه أنهم يجدون مساحات واسعة من الآداب والفنون يشغلها ويمتطيها محترفو الإفساد والتخريب الفكري والنفسي والأخلاقي في العصر الحديث، وأن معطياتها تعكس أقصى حالات التفكك والرذيلة والخراب.
هذا حق.. وحق أيضاً أن الأدب والفن هي في أساسها تقنيات حيادية يمكن توظيفها لخدمة هذا المذهب أو ذاك، وأن الخطاب الأدبي والفني يظل واحداً من أكثر الصيغ قدرة على الإثارة والإقناع والتأثير، وصوتاً يملك إمكانية اختراق سمع الإنسان المعاصر وعقله ووجدانه، والوصول إلى عمقه الفكري والذوقي والروحي لتقديم قناعاته وتصوراته.
لقد أفاد (الآخر) من هذه الفرصة المفتوحة، ووظفها إلى الحد الأقصى من قدراتها المتاحة، ومارس بواسطتها دوراً مزدوجاً، فأكد بمعطياتها ذاته وموقفه وفلسفته وتصوراته ومنظوره للحياة والإنسان والعالم.. وهاجم في الوقت نفسه رؤى الآخرين وتصوراتهم وقناعاتهم، فعرّضها لسلسلة متواصلة من الهزات والأعاصير، مستهدفاً تدمير ثقة الخصم بقيمه وخصوصيته، ووضعه في منطقة الفراغ أو الانخفاض الجوي، وتجريده من سلاحه، وقطع جذوره بعقيدته وتراثه وتاريخه، وجعله في نهاية الأمر يتقبل كل ما تأتي به رياح التشريق والتغريب.
وشبابنا لا يزال يتجادل في الظاهرة الأدبية والفنية: هل هي حلال أم حرام؟ وإذا كانت حلالاً فهل الأجدر أن تستنزف جهودنا وأوقاتنا على حساب القراءات والمطالب الشرعية؟ ألا يعد ذلك نوعاً من البذر الذي يتحتم أن نتجاوزه، من أجل ألا يبعدنا عن الضرورات الأشد إلحاحاً؟
تركنا لهم المساحات فصالوا وجالوا، وفرّطنا بهذه الفرصة القيمة التي كان يمكن أن تمنحنا وسائل وتقنيات فاعلة مؤثرة في تقريبنا من الأهداف وأعانتنا عليها. وكلّنا يعرف كيف أن الغرب اعتمد هذه الأداة في غزوه الفكري، وراح هذا الاعتماد يزداد اتساعاً في الكم والنوع، ويمثل بمرور الوقت ضغطاً متزايداً على عقل المسلم المعاصر ووجدانه وذوقه، بل على حريته واختياره.. إنهم يشدّدون حصارهم أكثر فأكثر، يعينهم على ذلك.. هذا التقدم الأسطوري في تقنيات الخطاب الأدبي والفني، وبخاصة السينما والمسرح والتلفزيون والكاسيت والفيديو والأقمار الصناعية، فضلاً عن التفنن في إخراج الكلمة المكتوبة والفكرة المصورة، عبر الكتب والمجلات والدوريات، في عالم متقارب يزداد التصاقاً يوماً بعد يوم، ويغدو قرية صغيرة لا يستطيع أحد أن يهرب من مرئياتها وخبراتها ومسموعاتها التي تطرق على رأس الإنسان المعاصر وسمعه وبصره صباح مساء.
ــــــــــــــ
أ.د عماد الدين خليل (المجتمع 1728).