" الطلاق مصيبة ، الطلاق كارثة ، الطلاق جريمة في حق الأسرة ، يجب أن نمنع حدوث الطلاق في المجتمع .. إلخ "
لقد كثرت الأحاديث وتعددت الشكاوى من الطلاق أنه يخرب البيوت ويشرد الأطفال دون أن نلاحظ أن الطلاق قد يكون رحمة للأسرة .
إن حدوث الطلاق بنسب عالية ، وممارسات خاطئة لا يبرر الطعن في شرعية الطلاق ، لأن الطلاق بحد ذاته أمر فيه مصلحة للأسرة المسلمة عند استحالة الحياة الزوجية ، أما أن يصبح الطلاق ألعوبة على ألسنة بعض الرجال أو لمجرد للتسلية وتنفيس الغضب فهو مشكلة من يستخدم هذا الحق بطريقة غير مشروعة ، ويمكن أن نشبه ذلك كمن يستخدم السكين ، إما أن يقطع بها فاكهة فيكون قد أحسن استخدامها ، وإما أن يطعن بها إنسانـًا فيكون قد أساء الاستخدام ، فهل نتهم السكين أم من أساء استخدام السكين ؟!!
إن فشل الزوجين في حياتهما الزوجية وعدم استقرارهما يترتب عليه أحد أمرين هما :
استمرار الحياة الزوجية بينهما مع وجود النكد وسوء المعاشرة والشقاق والنزاع ، أو الافتراق بالطلاق ، حيث يذهب كل منهما في سبيله ، ولا شك في أن استمرار الحياة الزوجية مع سوء المعاشرة ليس بالحل الحكيم خلافـًا لما يتوهمه بعض الناس زعمـًا منهم أنه أهون من الطلاق ، بل العكس هو الصحيح ، لأن الله عز وجل حرَّم تعذيب الإنسان لنفسه أو لغيره بأي نوع من أنواع العذاب ، ولا ريب أن في سوء العشرة تعذيب للطرف الآخر ، والله عز وجل بيّن حقيقة وأهمية الطلاق عند استحالة الحياة الزوجية بقوله تعالى : ( الطلاق مرتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان )[البقرة/229] ، والإسلام عندما يبيح الطلاق المضبوط بضوابط شرعية إنما يجعله آخر العلاج عند تعذر عودة الحياة بين الزوجين إلى الاستقرار الأسري .
إن المجتمعات الغربية الكافرة التي حرَّمت الطلاق على نفسها ، وتهجمت على الإسلام لأنه يبيح الطلاق ، واعتبرت هذا الأمر يتعارض مع حقوق المرأة بدأت تراجع نفسها ، وتبيح ما حرمته على نفسها قرونـًا ، فتطرفت في فتح الأبواب على مصراعيها لهجر النساء وتطليقهن بطريقة وبائية ، وصار هذا الطلاق يتم إما بمباركة وقبول الكنيسة ، وإما بموافقة قانونية من خارج سلطان الكنيسة ، والأرقام مدهشة والحقائق أشبه بالخيال .
وقد نادى الفيلسوف " برتراند راسل " في كتابه " الزواج والأخلاق " باستباحة الطلاق أيام كان محظورًا فقال : " لقد وجدت أمريكا الحل لمشكلة النفور والبغضاء بين الزوجين في الطلاق ، وإني أرى أن تحذوا إنجلترا حذو أمريكا ، وتبيح الطلاق على نطاق أوسع مما عليه الوضع حاليـًا " .
فانظروا إلى الذين عابوا على المسلمين أمر الطلاق وشهروا بالإسلام ؛ لأن الله تعالى شرع فيه الطلاق ، ابتلاهم الله تعالى ببلاء شديد في علاقاتهم الزوجية ، حتى وصل الحال بهم إلى التمرد على سلطة الكنيسة التي كانوا باسمها يشهِّرون بالإسلام والمسلمين ، ووضعوا لأنفسهم قوانين مدنية تسمح بافتراق الزوجين متى رغب أحدهما في ذلك ، فكانت هذه " العَلْمَنَة " في الغرب صفعة شديدة للذين أساءوا إلى الإسلام والمسلمين ، واعترافـًا غير مباشر بالحكمة الكبرى لتشريع الطلاق في الإسلام ، وإعلانـًا بأنهم قوم يجهلون .
إن الإحصائيات الغربية تثبت كيف أنهم تساهلوا في عملية الطلاق بعد أن أصبح مشروعـًا لدرجة أن الإحصائيات الفرنسية تشير إلى أن ثلث حالات الزواج بين الفرنسيين تنتهي بالطلاق ، وأن واحدًا من كل أمريكيين طلق قرينه ، بل تصل نسب الطلاق في بعض الدول الأوروبية إلى سبعين بالمائة .
إن الطلاق في الإسلام له أحكام وشروط وآداب ، وهو ليس مجالاً للعبث ، بل هو تشريع حكيم وحكمة بالغة ، ولهذا فإن اعتبار الطلاق محطة لانطلاق الاتهامات والكوارث الاجتماعية ، هو مفهوم خاطئ ، ولقد حدث الطلاق في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث طلق زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ .
ومما روي كذلك أن امرأة ثابت أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم وطلبت أن تخلع زوجها فقال لها ـ صلى الله عليه وسلم ـ " تَردين عليه حديقته ؟ فقالت نعم فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : [ اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ] ليس هذه دعوة للطلاق ، ولكنها دعوة لترشيد استعمال الطلاق والتقيد فيه بالأحكام الشرعية ، لئلا ينبني على إيقاعه بتعسف
ودون فهم ما يقع فيه الناس من الأخطاء والشرور .
خلل في الممارسة :
أوردت إحدى الصحف العربية خبرًا طريفـًا عن رجل طلق زوجته بعد أن اعتقد أن صفير الببغاء مصدره أحد المعجبين ، والموقف حدث عندما استيقظ الرجل في منتصف الليل على صوت صفيرات من منزل مجاور ، فلم يتردد في الاشتباه بأن زوجته على علاقة بأحدهم وطلقها منهيـًا بذلك زواجـًا دام ثلاث سنوات !!
من خلال هذا الموقف ورغم ما فيه من طرافة إلا أنه يدل على واقع أليم في كثير من بيوتنا ، حيث أصبحت كلمة الطلاق سهلة على ألسنة كثير من الرجال لدرجة أنه يحلف بها لإرغام ضيف على دخول منزله مثلاً أو لإثبات صدقه في البيع والشراء كأن يقول " عليَّ الطلاق بالثلاثة إن … " .
إن الطلاق ليس للتسلية ولا لتنفيس الغضب كما يفعل بعض الأزواج الجهلة الذين يوقع أحدهم الطلاق على الزوجة عند أي خلاف أو غضب ، فتثور عصبيته الحمقاء ، ولا يرى مهدئـًا لها سوى الطلاق ، أو يريد فرض رأيه على زوجته وإرغامها على فعل ما يريده ، فيحلف عليها يمين الطلاق معلقـًا ، كأن يقول : " إذا فعلت كذا فأنت طالق " أو " إذا ذهبت إلى مكان كذا فأنت طالق " ، إن صنفـًا من الناس أساءوا استعمال حق الطلاق الذي جعله الله بيد الزوج لإزالة عصمة النكاح عند وجود الحاجة لا تبعـًا للهوى واستجابة للجهل والانفعال .
إن ارتفاع نسب الطلاق في بلادنا أكثر دليل على سوء استخدام هذا الحق الشرعي من قبل بعض الرجال الذين جعلوا الطلاق وسيلة إرهاب وابتزاز ، خلافـًا لحكمة الشرع الحنيف الذي جعل الطلاق علاجـًا لمعضلة الخلاف بين الزوجين بعد التأكد من استحالة العشرة الزوجية بينهما .
كم من حالات الطلاق في محاكمنا حدثت لأسباب تافهة كزيادة ملح الطعام أو تأخر في إحضار كوب الماء أو بسبب مباراة في كرة القدم مما يثبت أن الطلاق أصبح على ألسنة كثير من الرجال وسيلة تهديد وإرهاب للزوجة ، وأذكر أنه اتصلت بي امرأة تبكي لأن زوجها طلقها بسبب أنها لم تضع للحمام طعامـًا !!
فهل يعقل أن يقطع أحد الميثاق الغليظ لمجرد هفوة بسيطة ؟
ومن وجهة نظر أخرى أعتقد أن وقوع الطلاق لأسباب تافهة دليل على ضعف المحبة بين الزوجين ، وإن كثيرًا من البيوت أصبح مثل بيت العنكبوت يتمزق ويتقطع عند أخف نسمة هواء .
إننا يمكن أن نشبه العلاقة الزوجية بين الرجل وزوجته ببنك الحب ، وبالتالي تعتبر الأعمال والسلوكيات الإيجابية إيداعات وجملتها أرباح ، أما الأعمال السلبية من السلوكيات والتصرفات فيمكن أن نعتبرها سحوبات وجملتها خسائر .
إن البنك المليء بالحب والعاطفة والحنان والمودة لا يمكن أن يخسر لمجرد موقف تافه يعترض الحياة الزوجية ، ولكن ربما يقلل من رصيد المحبة ، أما الموقف البسيط الذي يؤدي بالنهاية إلى الطلاق إنما يدل على أن الرصيد في بنك الحب على مستوى الإفلاس ، ولهذا يعتبر أي موقف سلبي ولو كان تافهـًا كالقشَّة التي قصمت ظهر البعير .
إن الإسلام حذر من التساهل في استخدام حق الطلاق ، وجعل الطلاق علاجـًا نهائيـًا لداء الشقاق بين الزوجين بعد فشل الصلح والإصلاح ، بل حرَّم الإسلام على المرأة أن تطلب الطلاق بدون سبب قاهر ، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم : [ أيَّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأسٍ حرَّم الله عليها أن تريح رائحة الجنة ] ، ولذا فإن على المرأة أن تكون أكثر وعيـًا لهذه المسألة ، وأن تكون أكثر صبرًا ومقاومة وسعيـًا من أجل استمرار الحياة الزوجية بأي ثمن.
إن اعتبار الطلاق حلاً مثاليـًا خطأ كبير يرتكبه العديد من الأزواج حتى بعد إقدامهم على الزواج مرة أخرى ، لأن الطلاق بداية الانحراف والسقوط في الهاوية المخيفة ،حيث الفساد الأخلاقي والأمراض النفسية والضياع الشامل للأبناء.
والدراسات تثبت أن 90% من رواد دور الأحداث من أبناء بيوتٍ وقع فيها انفصال بين الأب والأم ، فمن المسؤول عن انحراف هؤلاء الأبناء ؟!
ما أكثر أولئك الذين سقطوا وتاهوا في دروب الحياة ، فعاشوا الضياع وبقوا على هامش الحياة إلى أن لفظتهم كما يلفظ البحر الجثث الهامدة .
إن في التأني السلامة وفي العجلة الندامة ، ولا تكن كالفرزدق الشاعر الذي طلق زوجته نوار ثم ندم أشد الندم وقال :
ندمت نـدامة الكسعـي لمـــا غدت مني مطلقـة نـــــوار
فأصبحت الغداة ألوم نفسي بأمر ليس لي فيه اختـيـار
وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت بها يمينـي لكان عليّ للقـدر اختـبــار
الطلاق الناجح :
لقد وضعت الشريعة الإسلامية خطوات وقائية للحفاظ على كيان البيت المسلم كالتسامح والعفو وكظم الغيظ .. إلخ ، و خطوات أخرى عند حدوث المشكلة بين الرجل وزوجته ذكرها رب العالمين في قوله : ( واللاتي تخافون نشوزهنَّ فعظوهنَّ واهجروهنَّ في المضاجع واضربوهنَّ )[النساء/15] .
أما إذا كانت أسباب النزاع والخلاف قوية ومحكمة ولا يمكن علاجها فيما بين الزوجين ، عندئذٍ نلجأ إلى التحكيم في هذا الشقاق امتثالاً لأمر الله عز وجل : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمـًا من أهله وحكمـًا من أهلها إن يريدا إصلاحـًا يوفق الله بينهما إن الله كان عليمـًا خبيرًا )[النساء/35] .
ولكن عندما يتسع الفرق ويزداد الخلاف ولا تكون هناك نقاط التقاء بين الزوجين ، فعندئذٍ يكون آخر العلاج الكي ، ويكون الطلاق هو الدواء المر الذي لا بد منه عند الضرورة .
إن الطلاق في مثل هذه الحالات وبعد محاولات الإصلاح المختلفة تعد نعمة من نعم الله على الإنسان ، ولكن هذه النعمة حولها الجهلة إلى نقمة تفرق بينه وبين الأولاد وتشتت شمل الأسرة بطريقة توحي بالجهل والاستهتار العجيب .
إنه مما لا شك فيه أن الطلاق هو انهيار للبناء الأسري وانفصام للعلاقة الزوجية ، ونظرًا للآثار السلبية المترتبة على حدوثه خاصة على الأبناء الذين يحرمون من الرعاية والوالدية والتنشئة الاجتماعية والإشباع العاطفي كان لابد من وقفة جادة بين الزوجين لتقسيم الأدوار وتقاسم المسؤوليات بهدف تحقيق الاستقرار العاطفي والتربوي للأبناء .
ولعل من أهم ما يمكن أن يناقش بين الزوجين في سبيل توزيع الأدوار والمسؤوليات بينهما ثلاث قضايا رئيسية هي : حضانة الأبناء ، والسكن ، والنفقة .
أن كل ما نشكو منه من آثار سيئة للطلاق إنما يأتي من سوء تصرف الناس وعبثهم واستهزائهم بالدين ، وذلك عن طريق سلوك تصرفات غير شرعية ، وإلا فالطلاق الناجح القائم على الالتزام بالأحكام المترتبة عليه لا يضر أحدًا ولا يؤذي غير الجاني على نفسه .
إن الطلاق مسؤولية كبرى تترتب عليه التزامات وأحكام كثيرة ولاسيما مع وجود الأولاد ، وعلى الزوجين أن يراعيا الجوانب الشرعية والنفسية والتربوية والاجتماعية المترتبة على الطلاق ، ولا يقدمان عليه إلاّ بعد تروٍ ودراسة وأن يستنفدا كل وسائل الإصلاح ورأب الصدع وجبر الكسر ، حتى يكون طلاقهما ناجحـًا وغير ضار .
إن الطلاق الناجح لا تترتب على وقوعه أضرار مؤذية ، وذلك لأنه تم وفق الضوابط الشرعية والإسلامية ، والالتزام بما يفرضه الدين الإسلامي من حقوق وواجبات على كلا الزوجين ، والقاعدة الشرعية في ذلك حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : [ لا ضرر ولا ضرار ] .
- الكاتب:
التوجيه والإصلاح الأسري - دائرة محاكم دبي - التصنيف:
المقالات